كان تعداد سكان مدينة غزة فقط، بحسب سلطة جودة البيئة في قطاع غزة، يصل إلى قرابة مليون في الأيام العادية، ما بين مقيم وعامل في القطاعات المختلفة، فضلاً عن طلاب الجامعات والموظفين وآخرين. لكن اليوم، تغيب الإحصائيات الدقيقة حول أعداد الغزيين الذين ما زالوا متواجدين في المكان. علماً أن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة يقدّر العدد بعشرات الآلاف.
نزح غالبية سكان مدينة غزة ومحافظتها، وكذلك محافظة الشمال، إلى وسطه وجنوبه، منذ الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر الماضي. وكانت أعدادهم تزيد يوماً تلو الآخر في تلك المناطق، حتى أصبح الجنوب ملجأ الغزيين نتيجة استمرار القصف الإسرائيلي والتوغل في بعض المناطق. وفي النتيجة، أصبحت المنطقة تشهد اكتظاظاً ومعاناة يومية متفاقمة.
بعض الشوارع التي كانت تضم مئات الأشخاص في مدينتي خانيونس ورفح أصبحت اليوم تضم عشرات الآلاف، في حركة غير مسبوقة في المنطقة، على الرغم من كل المخاطر. هؤلاء يعيشون معاناة يومية لتأمين الطعام والشراب، في رحلة تستغرق ساعات طويلة ومرهقة. يسعى الجميع إلى تأمين ما أمكن من المواد التموينية والبحث عن الباعة الذين ما زالوا موجودين في المكان على قلّتهم.
إذاً، تحوّل جنوبي قطاع غزة إلى المركز الرئيسي للغزيين، على الرغم من المخاطر التي تلحق بهم من جراء القصف المتواصل على عدد من الأهداف، وسط استمرار مزاعم الاحتلال الإسرائيلي أن مناطق الجنوب آمنة، علماً أنه يشدد قصفه على مناطق فيها، كما يشير عاهد أبو رسمي (50 عاماً)، الذي نجا مرتين نتيجة قصف أهداف وسط مدينة خانيونس، المكان الذي نزح إليه برفقة أسرته وأسرة شقيقه وشقيقته.
مساحات ضيقة
أبو رسمي من سكان مدينة غزة، تحديداً حي تل الهوا، يقيم حالياً في أحد المحال الفارغة الذي استطاع الحصول عليه بالإيجار مؤقتاً من صديقه في اليوم الخامس عشر للعدوان الإسرائيلي. مساحته 50 متراً فقط، وانضمت إليه شقيقتاه وأبناؤهما، ليؤوي المكان 35 فرداً. يحاول النوم في بعض الأيام، وغالباً ما ينام الرجال أمام باب المحل لعدم وجود مساحة بداخله.
يقول أبو رسمي لـ"العربي الجديد": "لا مقومات حياة هنا. هربنا من موت وننتظر الموت هنا. نلتقي يومياً بسكان مدينة غزة وجيراني وأقاربي الذين هربوا. نحكي عن معاناتنا، وكل كلامنا هو كيف نؤمّن الطعام والشراب، وعن الأشخاص الذين استشهدوا أو أصيبوا. كل يوم صدمات. يومياً، نخسر أقارب أو أصدقاء أو أشخاصاً نحبهم ونتعامل معهم. تتوقف كل مقومات الحياة عندما يحل الغروب".
وعلى الرغم من اعتبار منطقة وسط قطاع غزة آمنة نسبياً، فإن عدداً من أهالي تلك المناطق نزحوا، خصوصاً أهالي المنطقة الشرقية، إلى وسط قطاع غزة، وكذلك من بلدة المغراقة الواقعة بالقرب من مخيم النصيرات وسط القطاع. جميعهم اتجهوا جنوباً كحال أحمد أبو ضيف (50 عاماً) الذي هُجر من أرضه التي عاش فيها طوال حياته برفقة أبنائه وأحفاده، ووصلوا إلى المخيم الذي أنشأته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في خانيونس، ونصب خيمة ليبقى إلى جانب الناس.
يقول أبو ضيف لـ "العربي الجديد": "أنا بدوي الأصل. صنعت خيمة لي ولصديقي عندما نزحنا. الاكتظاظ في الجنوب غير عادي. خلال اليومين الأولين، لم نتمكن من جلب الطعام والمياه. بعدها، طلبت من زوجتي وبناتي مرافقتي للحصول على طعام. لدي 9 أبناء وبنات، ثلاثة منهم متزوجون، فضلاً عن سبعة أحفاد. يجب أن أؤمّن الطعام لأحفادي ثم أبنائي. أما أنا، فيمكنني تناول رغيف خبز طوال اليوم والقليل من الماء. الأرض علمتني الصبر".
من فقر إلى فقر
لا يختلف الحال بالنسبة لسكان الجنوب عن حال النازحين من منازلهم في شمال القطاع ومدينة غزة. نزح بعض سكان المناطق الجنوبية الشرقية إلى غرب ووسط مدينتي رفح وخانيونس، وأصبح الاكتظاظ فيها شديداً. كما نزح عدد آخر من الذين دمرت منازلهم، فيما تضررت منازل آخرين. لجأ هؤلاء بداية إلى المدارس أو حصلوا على محلات فارغة للإيجار. زاهر أبو دقة نزح من بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خانيونس، مشيراً إلى أنهم نزحوا من فقر كانوا يعيشونه هناك إلى فقر أكبر في الوقت الحالي.
توزعت عائلة أبو دقة المكونة من خمسين فرداً وتقيم في مربع سكني في مدارس تابعة للأونروا، وآخرين في مدارس في مدينة رفح. أما هو وأسرته المكونة من أربعة أفراد، فنزحوا إلى منزل صديقه في مخيم خانيونس. يقضي معظم وقته بالقرب من باب المنزل أو خارجه لتأمين الطعام للقاطنين في المنزل وعددهم 30 فرداً. يقول أبو دقة لـ "العربي الجديد": "ليس في خانيونس مقومات لتأمين احتياجات جميع النازحين. في الأيام العادية، كنا نذهب إلى غزة للترفيه وقضاء الوقت في المطاعم أو العمل. نعتمد بشكل أساسي على ما هو متاح من المحال التجارية والمخابز وغيرها". ويشير أبو دقة إلى أن "نسبة النزوح زادت على مقربة من مستشفيات مجمع ناصر وأبو يوسف النجار وبالقرب من المستشفى الأوروبي. كما أن أفراداً من عائلتي نزحوا إلى المستشفيات علّها تكون أكثر أماناً".
أحد أصحاب المخابز وسط مدينة خانيونس في منطقة البلد، حمزة أبو كميل، يتحدث عن صعوبة تأمين احتياجات سكان الجنوب والنازحين اليومية من الخبز. ويشدد على أن عملهم الحالي وبناءً على القدرة الطبيعية في الأيام الماضية للعمل في المخبز وصلت إلى 500 في المائة بالمقارنة مع المعتاد. في المقابل، فإن الدقيق المتوفر لا يتمتع بالجودة المطلوبة، والكميات محدودة، وسط الطلب الكبير وعدم توفر المياه للعجن".
أكثر ما يحزن أبو كميل أنه في بعض الأحيان، ينتهي المخزون اليومي من الدقيق والخبز بالكامل. يأتي البعض ويطلب منه الخبز للأطفال، حتى المحترق منه، إلا أنه يعجز عن الرد. يقول أبو كميل لـ "العربي الجديد": "جنوب قطاع غزة فيه عدد من المخابز التي تلبي حاجة سكان الجنوب. لكن نزوح أعداد كبيرة من شمال القطاع ومدينة غزة وبعض مناطق الوسط أدى إلى زيادة الأعباء. ومع قصف المخابز وتدمير عدد من المتاجر، فإن الأزمة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم".
مخاطر منتظرة
إلى ذلك، يتحدث المهندس والخبير البيئي رأفت قديح، عن مخاطر قد تلحق مناطق جنوب قطاع غزة. ويشير إلى أن الإقامة قد تكون مؤقتة في المنطقة كما هو مخطط، وقد يعود النازحون إلى منازلهم بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي. إلا أن نسبة كبيرة من المنازل دمرت بالكامل أو لم تعد صالحة للسكن.
ويشير إلى أن ما بقي من مبان يحتاج إلى تقييم الفرق الهندسية للتأكد من إمكانية البقاء فيها، على غرار ما حدث خلال العدوان الإسرائيلي عام 2021، حين ألحق الاحتلال الإسرائيلي أضراراً ببعض المباني التي كانت تحتاج إلى إعادة تأهيل بحسب منظور السكان. وبناء على التقييم الأولي، تبين أن هناك دمارا في الأساسات السفلية، بالتالي هي غير صالحة للسكن. ويتوقع أن يبقى السكان في مناطق الجنوب. ويتحدث عن الخوف من إطالة العدوان الإسرائيلي وانتشار الأمراض والأوبئة وتراكم النفايات، ما يجعل المنطقة تواجه كارثة إنسانية وبيئية، في ظل نقص الغذاء ووسائل النظافة والماء والتلاحم اليومي بين الناس.
ويقول قديح لـ "العربي الجديد": "الاكتظاظ في قطاع غزة في الأيام العادية غير صحي للإنسان والبيئة. حالياً، لا قدرة على تصريف المياه والنفايات والتعامل مع المرضى وتوفير الطعام وغير ذلك، بالإضافة إلى تدمير البنى التحتية والتربة وغيرها. بعد انتهاء العدوان، سيكون القطاع عرضة لتفشي الأمراض، في حال لم يحصل تدخّل حقيقي لإعادة إعمار سريعة ومعالجة فورية للأمراض والأضرار في المستشفيات والعيادات وإزالة الركام وغير ذلك. ومع استمرار الحصار الإسرائيلي، فقد أصبحنا في مجتمع خطير لا يصلح للعيش".