يعود التحذير من الآثار الاجتماعية والنفسية للتعذيب في السودان، عقب وفاة شخصين تحت التعذيب، أحدهما في مركز للشرطة، والآخر في مقرّ تابع لقوات الدعم السريع. وليس التعذيب جديداً، لكنّ الثورة السودانية ونهاية عهد عمر البشير، وعدا السودانيين بوضع حدّ لهذه الممارسة المنتهكة لحقوق الإنسان عموماً والمحتجزين خصوصاً.
للسودان تاريخ طويل مع قصص التعذيب داخل المعتقلات، من بينها، قصة العميد المتقاعد محمد أحمد الريح. هو أول من خرج إلى الإعلام ليروي قصة تعذيبه، والتي أشار فيها إلى تعرضه لعدة أنواع من التعذيب منها: الربط المحكم، والتعليق، والوقوف لساعات قد تمتدّ ليومين كاملين، وسكب المياه الباردة أو الساخنة على جسده، والحبس في المراحيض، وربط الأعين ربطاً محكماً وعنيفاً لساعات، والاغتصاب بإدخال مادة صلبة داخل الدبر، والإخصاء، والضرب، والألفاظ النابية، والصعق بالكهرباء. أوضح العميد في مذكراته التي نُشرت على نطاقٍ واسع، الآثار الصحية والنفسية الناتجة عن تعذيبه، والتي استمرت معه، حتى بعد إطلاق سراحه، ومنها: الصداع والإغماء، وفقدان الخصية اليسرى، والإصابة بانزياح الغضروف في الظهر، وتأثر النظر سلباً.
بعد الثورة، استبعد السودانيون استمرار التعذيب. لكنّهم صدموا، في الأسابيع الماضية، بمقتل شاب اسمه بهاء الدين نوري، تحت التعذيب، في مقرّ تابع لقوات الدعم السريع. وقبله، مقتل مواطن اسمه عز الدين حامد، بالطريقة نفسها، في أحد مراكز الشرطة. الحادثتان أثارتا غضباً واسعاً في الشارع السوداني، ما دفع النيابة العامة، تحت الضغط الشعبي، إلى بدء حملة تحقيقات واسعة. وأمرت قوات الدعم السريع بتسليم المتهمين بقتل الشاب بهاء الدين نوري، وقد استجابت لذلك، فيما تستمر النيابة في ممارسة ضغوط على الشرطة لرفع الحصانة عن المشتبه بتورطهم في التعذيب.
يستعيد المحامي حاتم الوسيلة، في حديثه إلى "العربي الجديد" ذكريات تعرّضه للخطف والاعتقال من دون علم أسرته قبل سنوات. ويشير إلى أنّه في ذلك، رفقة بقية المعتقلين، كانوا يتعرضون لأسوأ أشكال التعذيب، من الضرب بخراطيم المياه، والرش بالمياه الباردة والثلج، والوقوف ليلة كاملة، وعدم الاستجابة لطلب مقابلة طبيب عند شعور المعتقل بأيّ مرض عام أو ناتج من عملية التعذيب اليومية. ويعلق: "لا بدّ من حملات مجتمعية وسياسية وقانونية وإعلامية للقضاء على ظاهرة التعذيب كليّاً. يجب أن تبدأ الحملة بتوقيع الحكومة على اتفاقية مناهضة التعذيب (اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة). تلك الاتفاقية التي تلزم الدولة بالإشراف على جميع المعتقلات، ووقف وسائل التعذيب كافة وإغلاق جميع مقار الحجز غير القانونية". يقترح سنّ مادة في القانون الجنائي السوداني بتجريم التعذيب كلياً، وتشديد العقوبة لتصل إلى الإعدام. كذلك، يشدّد على "إجراء تحقيقات جنائية جادّة وليست صوريّة، بشأن مزاعم التعذيب، على أن يستوفي التحقيق معرفة من يصدر أوامر التعذيب، ومن يأمر بالاعتقال وأن تُكشف كلّ نتائج التعذيب أمام المجتمع السوداني ليكون على علمٍ بها، بالإضافة إلى متابعة حالات الإخفاء القسري، وهي التي يرتبط معظمها بجرائم تعذيب". يضيف الوسيلة أنّه "من دون تلك الإصلاحات القانونية، فإنّ هناك مسؤولية على المجتمع ككلّ، خصوصاً نقابة المحامين ومنظمات المجتمع المدني والكيانات القانونية. وينبغي الاجتهاد في تنظيم حملات مُكثفة للتوعية بحقوق المواطنين وتثقيفهم حول مخاطر التعذيب".
قُتل مواطنان في الأسابيع الماضية تحت التعذيب على يد عناصر الأمن
من جهته، يسترجع الطالب بجامعة الخرطوم خالد حسن عبد العزيز، ذكريات اعتقاله التي استمرت خمسة أشهر من نهاية 2015 إلى إبريل/ نيسان 2016. تعرّض فيها للصعق بالكهرباء، والضرب المستمرّ ، والحرمان من الأكل والشرب، خصوصاً في الأيام الأولى. ويشير لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "لكلّ ذلك، آثاراً اجتماعية ونفسية سيئة جداً، ولم يعالجها سوى نجاح الثورة وإسقاط النظام". ويضيف: "بمجرد خروجنا من المعتقلات، عُرضنا على أطباء لإجراء مراجعات شاملة، فحُوّل البعض للعلاج النفسي".
من جهتها، توضح الدكتورة هبة عمر، اختصاصية الجراحة العامة، والتي كانت ضمن المعتقلين أثناء الثورة، أنّ تجربتها مع كوادر طبية أخرى في الاعتقال، دفعتهم إلى توثيق التعذيب ومدى تأثيره على الجسد والصحة النفسية. وتوضح أنّه، على سبيل المثال، بمجرد منح معتقل وجبة من دون ملح يعني نقص الصوديوم في جسمه، وبالتالي، نقص كمية المياه، ما يؤدي إلى حالة من الإعياء والضعف الجسدي ما يؤدي حتماً لضعفٍ ذهني ونفسي. وتشير إلى أنّ تعرّض الشخص للأضواء لفترة طويلة كما يحدث في كثير من المعتقلات، يؤدي إلى مضاعفات خطيرة. وتتحدث عمر لـ"العربي الجديد" عن التعذيب الطبي، وتقول: "هذا النوع يأخذ شكل الحرمان من أدوية الأمراض المزمنة، ورفض إحضار طبيب للمعتقلين المرضى، أو إحضار طبيب غير متخصص، أو غير أخلاقي لا يحترم الخصوصية، بالإضافة إلى تأخير الفحوص ومنح أدوية بشكل خاطئ".
وتلفت إلى أنّ تلك الممارسات مضرّة أكثر من التعذيب الجسدي المباشر. وتروي أنّ المعتقلين، ظلّوا عرضة لأمراض العصور الوسطى، بسبب ضيق مساحة المعتقلات التي تفتقر للتهوية وتلوث مياه الشرب فيها، وسوء وضع المراحيض. كلّ ذلك، ساعد في انتشار أمراض مثل الطفح الجلدي، ونقص الفيتامين، والإسهالات، والنزلات المعوية، وأمراض العيون. وتشير إلى أنّ "هناك أشخاصاً ما زالوا يعانون من الآثار الجانبية لما تعرضوا له داخل المعتقلات ويحتاجون لفترات طويلة للتعافي".
من جهته، يبدي تجمع المهنيين السودانيين انزعاجه من استمرار ممارسة التعذيب بعد الثورة. وسلّم مذكرة للنائب العام، طالبه فيها بتكوين لجنة من النيابة العامة ونقابة المحامين لمراجعة جميع مقار القوات النظامية، للتأكد من خلوها تماماً من المعتقلين المدنيين، وتسليم الموجودين في المقار الأخرى للشرطة. كذلك، طالب التجمع، وزيرالعدل، بإصدار تشريع يلغي بموجبه سلطة القبض والسجن لمدّة 24 ساعة، مع تشكيل لجنة دائمة، بجميع الصلاحيات، لمراجعة الانتهاكات السابقة. وتلقي الشكاوى ممن تعرضوا لممارسات القبض والاعتقال والتحقيق بصورة مخالفة للقانون، وإنصافهم عبر تحويل هذه البلاغات للمحاكمة العادلة.
ويؤكد عمار الباقر، عضو سكرتارية تجمع المهنيين السودانيين، لـ "العربي الجديد"، أنّ "سلوك التعذيب وبقية الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، لن تنتهي إلا بعد اتخاذ الدولة جملة من الإجراءات، لمنع وتجريم تلك الممارسة. على أن تُتخذ تلك الإجراءات على المستويين القانوني والإداري، وإنفاذ جميع النصوص التي تجرّم ممارسة التعذيب، وفرض الرقابة على المعتقلات كافة، ونظام رقابي محكم لضمان سلامة حقوق المعتقلين". ويضيف الباقر لـ"العربي الجديد": "إذا لم تقم الدولة بكلّ تلك الخطوات، ستكون هي أيضاً، مسؤولة عما يحدث من جرائم. والتجمع يضغط شعبياً باستمرار على الحكومة، ويتولى توعية المواطنين على حقوقهم، ويتحدث مع السلطات في هذا الشأن. على المجتمع العمل بصورة جماعية لمناهضة جرائم التعذيب لما لها من آثار جسدية ونفسية واجتماعية".
من يتعرضون للتعذيب يحتاجون إلى فترات طويلة للتعافي
إلى ذلك، يقول محمد بدوي، من المركز الأفريقي للعدالة ودراسات السلام، إنّ "منظمات المجتمع المدني ظلت تقوم بجهد كبير طوال السنوات الماضية لمحاصرة ممارسات التعذيب". ويبدي أسفه الشديد لمشاركة بعض العاملين في الطب العدلي في الجريمة، من خلال التستر عليها عبر إعداد تقارير كاذبة. لكنّ بدوي يلفت "العربي الجديد" إلى أنّ "منظمات وثقت كثيراً من الانتهاكات وهي تساعد حالياً في عمليات إعادة تأهيل الضحايا، جسدياً ونفسياً، بالإضافة إلى تحركاتها على المستويين الدولي والإقليمي، للضغط على النظام البائد لوقف تلك الممارسة في حينه". ويؤكد أنّ التعذيب لن يتلاشى إلا بالمصادقة على اتفاقية مناهضة التعذيب، وتعديل جملة من القوانين، ومنظومة الطب العدلي، وتطبيق المبادئ الدولية، وتفكيك البنى التحتية للجهات التي تمارس التعذيب، وتطبيق العدالة الانتقالية التي تنصف الضحايا. ويقترح توجيه الدولة اعتذاراً علنياً صريحاً لكلّ ضحايا التعذيب في السودان.