تسعى الحكومة الأردنية بالتعاون مع وجهاء العشائر إلى التغلب على "الجلوة العشائرية" التي تلحظ ترحيل أقارب مرتكب جريمة قتل حتى الجد الخامس، عن منطقة الواقعة، وتعتبر إحدى التقاليد الاجتماعية الأكثر سلبية على المجتمع، باعتبارها تجمّد الحقوق القانونية وتهدرها باسم الأعراف، ما يجعل أبرياء لا علاقة لهم بالجريمة يدفعون ثمن علاقتهم بالجاني اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً.
ويعتبر الأردنيون العشائر أداة للضبط الاجتماعي، وعاملاً مهماً في ترسيخ القيم المجتمعية التي تحقق التماسك الذي يرعى المصالح الوطنية، ويحقق أمن الفرد وأمانه ويصون عرضه، تمهيداً لترسيخ السلم المجتمعي. لكن على الرغم من أهمية الدور، ثمة من يعتبر عاداتها بديلاً من تطبيق سيادة القانون والحقوق.
وثيقة ملزمة
وأعلنت وزارة الداخلية أخيراً أن 1570 من وجهاء العشائر وقّعوا وثيقة "الجلوة العشائرية" التي "بات تنفيذ بنودها أمراً ملزماً للحكام الإداريين، ويندرج ضمن واجبات عملهم الوطني". وقد علّق وزير الداخلية مازن الفراية، قائلاً إن "الوثيقة تمثل خطوة على طريق إنهاء ظواهر الجلوة غير الحضارية في ظل التقدم الاجتماعي والعلمي. وتضمنت بنوداً مهمة، من بينها حصر المشمولين بالجلوة بالقاتل ووالده وأبنائه الذكور، وتحديد مدتها بسنة واحدة قابلة للتجديد بحسب ظروف القضية ومعطياتها التي يقررها الحاكم الإداري والمجلس الأمني التابع للمحافظة". ووعد الفراية بـ"تنفيذ بنود الوثيقة بكل حزم وجدّية بعيداً عن المجاملات، تمهيداً لتحقيق الأمن والسلم المجتمعي المطلوبين، مع عدم السماح بتعريض حياة المواطنين لتجاوزات وبالمس بحريتهم في الإقامة والسكن والعيش الكريم".
وتشمل إجراءات الجلوة اختفاء الجد الخامس عن الأنظار في بداية ما يعرف "بفورة الدم بعد جريمة قتل"، وذهاب الجد الرابع إلى منطقة تحددها مجموعة عشائر من المنطقة ذاتها. أما الجد الثالث فيغادر المنطقة ولا يعود إلا بموافقة أهل المجني عليه، فيما يرحّل الجدان الأول والثاني لفترة يحددها اتفاق عشائري.
ومنذ بدء تطبيق بنود وثيقة ضبط الجلوة العشائرية في الأردن في سبتمبر/ أيلول الماضي، وتنفيذ الخطوات الحكومية الجديدة، عاد حوالى 4300 شخص إلى منازلهم، وفق الأرقام والمعلومات الصادرة عن وزارة الداخلية، فيما تُبذَل الجهود لإعادة ما بين 500 إلى 700 شخص ما زالوا متضررين، إلى منازلهم. وأعلن عدد من الحكام الإداريين والمحافظين الانتهاء من ملف الجلوة العشائرية في مناطقهم تماماً، مثل محافظات معان والمفرق والزرقاء، وعدد من الألوية في مختلف مناطق المملكة.
وانتقدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" لحقوق الإنسان الجلوة العشائرية، في وقت سابق. وطالب نائب مديرة فرعها في الشرق الأوسط مايكل بيغ السلطات الأردنية بمنع الهجمات الانتقامية، وإجلاء الأبرياء قسراً من منازلهم، وعدم تنفيذ المسؤولين المحليين إجراءات الجلوة الخاصة بفرض عقوبة جماعية على أشخاص غير مسؤولين عن جريمة. ووصف الجلوة بأنها "عقاب تعسفي يخالف دستور الأردن والتزاماته الحقوقية".
وتحدد الوثيقة الجديدة مكان تنفيذ تدابير الجلوة في المحافظة ذاتها، وتمنح القاضي الأعلى صلاحية تقدير قيمة الفدية. ولا يشكل الوجود في مؤسسات ودوائر رسمية وجامعات ومدارس خرقاً لشروطها. وفي حال الإقدام عـلى الثأر والانتقام، فيسمح لذوي المجني عليه بمطالبة ذوي الجاني بالفدية، بالإضافة إلى الملاحقة القضائية. كذلك تمنع الوثيقة المشمولين بالجلوة من التصرف بأموالهم المنقولة وغير المنقولة، وتحذر من اتخاذ إجراءات مشددة في حق كل من يقوم أو يشارك أو يحرّض على إلحاق ضرر بممتلكات عامة وخاصة، كردّ فعل على حصول جرائم".
نحو السلطة أولاً
يقول الشيخ طلال صيتان الماضي لـ"العربي الجديد" إن "بقاء تدابير الجلوة في مجتمع يشكل الشبان اليوم نسبة 70 في المائة من أفراده، من بينهم نسبة 90 في المائة من المتعلمين والمثقفين، أمر غير معقول. كذلك لا يجوز أن نراوح مكاننا بسبب أعراف وعادات سلبية، في وقت يضم مجتمعنا عدداً كبيراً من حاملي الشهادات الجامعية العالية". يضيف الماضي: "تطبق الجلوة لإبعاد أفراد عائلة الجاني عن مكان الجريمة تجنباً للاحتكاك والانتقام. وفي السابق كان عدد الأشخاص الذين يشملهم عرفها ونظامها أقل من اليوم، كما أن تداعياتها المرتبطة بترك الناس مصالحهم ومشاغلهم والانتقال إلى مكان جديد كانت ذات تأثيرات سلبية أقل حجماً اقتصادياً ونفسياً على العائلة، خصوصاً الأطفال والنساء. من هنا بادر المسؤولون بمساندة الوجهاء إلى وضع حد لها، وتنظيمها عبر إصدار وثيقة رسمية طال انتظارها، إذ إن دولاً كثيرة تضم عشائر سبقتنا في مغادرة المربع السلبي للعادات والتقاليد، وسلكت دروب دولة القانون والمؤسسات".
ويلفت الماضي إلى أن "الجلوة تتضمن أعرافاً لا تمثل القيم الإنسانية، مثل حرق بيوت وسيارات بسبب جرائم، وحرمان الناس على علاقة بالجاني من تأجير بيوتهم والانتفاع منها بعد مغادرتهم منطقة سكنهم". ويطالب بـ"عدم ترك موضوع تطبيق بنود الوثيقة لرغبات الناس، وبأن تتولى السلطة فرض القانون على الجميع. وإذا تركت الأمور لأهواء الناس فسوف يزداد الوضع سوءاً. لذا أرى أن الكرة في ملعبها".
الحدّ من العقوبات الجماعية
وتشرح أستاذة علم الجريمة، خولة الحسن لـ"العربي الجديد" أن "الأعراف العشائرية شكلت دائماً وسيلة لضبط المجتمع، وتحقيق هدف تماسكه، والحفاظ على أمنه واستقراره وكرامة الإنسان فيه. لكن الأصوات تعالت لإعادة النظر في مفهوم الجلوة العشائرية وتدابيرها التي قد تمتد آثارها السلبية سنوات على حياة وأمن واستقرار ورزق أبرياء لا ذنب لهم إلا وجود روابط دم أو قرابة بالجاني".
وترى الحسن أن "الالتزام بتطبيق وثيقة الجلوة العشائرية سوف يحقق الأمن والسلم المجتمعيَّين مع تجنب انتهاك حقوق الإنسان، ويوقف انتهاك حقوق الضحايا في السكن والتنقل والعيش الكريم، ويحدّ من تطبيق العقوبات الجماعية على مجتمع أقارب الجاني ويرفع الظلم الذي يلحق بهم، ويوقف مسلسل اجترار الجريمة عموماً والثأر خصوصاً". تضيف: "ونحن نسأل لماذا يعاقب أفراد على ذنب لم يقترفوه؟ ولماذا يجب أن يدفعوا ثمن جرم ارتكبه شخص يحمل اسم العشيرة؟ فالعقوبة فردية في الأصل وارتكبها الجاني وحده، ولا يجوز توسيع مسؤولياتها. كذلك نعتبر أنه من الضروري تخفيف العبء الأمني الملقى على أجهزة إنفاذ القانون التي تحاول الحفاظ على النظام العام وحماية الأرواح والممتلكات الخاصة والعامة".
إدراك التطور المجتمعي
في سياق متصل، يقول أستاذ علم الاجتماع، حسين الخزاعي لـ"العربي الجديد" إن "الوثيقة خطوة في الاتجاه الصحيح، إذ إنّ أناساً كثيرين كانوا يُظلمون ويُلحق أذى وضرر بهم، على الرغم من عدم وجود أي علاقة لهم بالجريمة المرتكبة، علماً أن أي إنسان ذي تصرفات طبيعية لا يمكن أن يشجع على ارتكاب جريمة وإلحاق ضرر بآخرين. ومع زيادة التعليم والاندماج في المجتمع والقدرة على تفهم السلوك الخاطئ، وُضعت هذه الوثيقة وتبنّى المجتمع مضمونها".
ويؤكد الخزاعي أنه "لا يعقل في أي حال إجلاء مئات من العائلات من بيوتها ومناطق سكنها إلى مناطق أخرى، ويستمر ذلك لأشهر أو سنوات، فالمجتمع أدرك التطور في القرن الواحد والعشرين". ويشدد على "ضرورة محاسبة مرتكب الجريمة فقط على الخطأ الذي ارتكبه، وليس الأب أو الأخ. ويجب بذل جهود لبلوغ هذه المرحلة المهمة لوقف دفع ثمن جريمة ارتكبها شخص أخر، ومعاقبة أسرة بكاملها على خطأ فردي".
ويرى الخزاعي أن "المجتمع سوف يقبل الوثيقة"، سائلاً "ما ذنب الأم والأخوات والأطفال الصغار في المعاناة من جريمة ارتكبها الجاني، والتي قد تؤدي إلى ترك الأطفال الشبان مدارسهم وجامعاتهم؟". ويدعو الخزاعي إلى "عدم المبالغة في الحديث عن الثأر والمطالبة بفدى بمبالغ كبيرة، فعادة الأخذ بالثأر انخفضت في الأردن ولا تتجاوز الحالتين سنوياً. والأكيد أن المجتمع كله ينبذ الجريمة اليوم، وسوف يؤيد الوثيقة من منطلق شعوره الإنساني والاجتماعي".
وكان المشرعون الأردنيون قد ألغوا رسمياً الجلوة العشائرية من النظام القانوني للدولة، حين أقرّوا "قانون محاكم العشائر" في عام 1976. وفي أغسطس/ آب من عام 2016، أقرّت اللجنة القانونية الوزارية الأردنية تعديلات على "قانون منع الجرائم" من أجل إضفاء الشرعية على الجلوة، لكن تطبيقها حُصر في شخص يزعم أنه ارتكب الجريمة إلى جانب أطفاله ووالده، على ألا تتجاوز عاماً واحداً، إذا لم توافق وزارة الداخلية على تمديده.