الجوع يتفاقم... يوميات الغزيين الصعبة في البحث عن الطعام

21 نوفمبر 2024
حصل على القليل من الطعام (معز صالحي/ الأناضول)
+ الخط -

تستمرّ أزمة الجوع في وسط وجنوب قطاع غزة في ظل شح المساعدات الإنسانية وسرقتها من قبل العصابات، بالإضافة إلى غلاء ما هو متوفر، لينام الصغار والكبار جياعاً 

تعصف أزمة إنسانية ومعيشية خانقة في وسط وجنوبي قطاع غزة، نتيجة منع الاحتلال الإسرائيلي تمرير المساعدات وإدخال البضائع، وانتشار لصوص وعصابات في طريق الشاحنات القليلة التي يسمح الاحتلال بإدخالها عبر معبر كرم أبو سالم التجاري، فيما لا يزال معبر رفح مغلقاً منذ أكثر من ستة أشهر، ما أدى إلى تعميق الأزمة وسط ظهور ملامح مجاعة حقيقية نتيجة غياب المستلزمات الأساسية من الأسواق.
تتركز الأزمة في غياب الطحين (الدقيق) ما أدى إلى ارتفاع سعره. فقبل شهر ونصف الشهر، لم يزد سعر الكيس بوزن 25 كيلوغراما عن 20 شيكلا (الدولار يساوي 3.7 شواكل). أما في الوقت الحالي، فيصل سعره إلى ما بين 100 و150 شيكلاً، فيضطر الناس للاصطفاف في طوابير طويلة على المخابز تستمر لعدة ساعات للحصول على ربطة خبز، أو الاعتماد على البدائل كالأرز والمعكرونة والعدس.
ويتزامن شح الدقيق مع الارتفاع الكبير في أسعار الخضار، وقد بلغ سعر الكيلوغرام الواحد من البصل ما بين 50 و60 شيكلاً، ومثله الطماطم، فيما بلغ سعر كيلو الخيار 20 شيكلاً، ومثله الباذنجان، بينما اختفت البطاطاس من الأسواق. كذلك ترتفعت أسعار الملابس الشتوية بمستويات لم يعتد الناس عليها في القطاع، خصوصاً مع فصل الشتاء وحاجتهم للتدفئة.
لأكثر من ساعتين، ظل ياسر شاهين النازح في خيمة في منطقة المواصي غربي مدينة خانيونس، يبحث عن بائع خبز لإطعام أطفاله، إلا أنه لم يجد سوى رقائق الصاج (خبز رقيق يستخدم للمأكولات السريعة) اشتراه بسعر مرتفع، كما أن حجمه الصغير لا يشبع الطفل، فضلاً عن رائحة كريهة منبعثة منه، لكنه اضطر إلى شرائه لسد جوع أطفاله.
يقول شاهين لـ "العربي الجديد"، بينما كان يتجول داخل مخيم الإيواء الساعة الخامسة من مساء أمس: "حتى الآن، ما زلت جائعاً لأنني لم أتناول كفايتي من الطعام، فالواقع أليم وهناك أزمة دقيق ومواد غذائية، والناس ليس لديها ما تأكله. حرفياً أطفالنا جياع، وإذا وجدت طحيناً فيكون منتهي الصلاحية".
وفي طريق عودته إلى منزله، وجد المواطنين يصطفون بطوابير على بائعي المعكرونة والأرز، وهو ما جعله يفكر في البحث عن بدائل للطحين للتغلب على جوع أطفاله.
أما أم العبد، فكانت تتحدث بصوت مرتفع مع طفلتها بفرح وهي عائدة إلى منزلها الساعة السادسة من مساء أمس: "أحضرت لكم طحيناً ليوم غد". تروي أم العبد لـ "العربي الجديد" رحلة معاناتها منذ أربعة أيام لجلب الطحين، وتقول: "تحدثت مع أصدقاء وأقارب واليوم استيقظت صباحاً وتواصلت مع سيدة أعطتني طحيناً للأطفال، وها أنا عائدة لإفراحهم واقتسامها مع عائلة نازحة معنا في الخيمة"، مشيرة إلى أنها اشترت رقائق صاج لإطعامهم "لكنها لا تغني من جوع".
وعن الخضار، تقول إنها لا تفكر فيها، لافتة إلى أنها لم تشترِ الطماطم منذ شهرين، ولا تستطيع شراء الخضار بسبب ارتفاع سعرها. وما يزيد المعاناة البرد وتدفق مياه الأمطار إلى الخيمة.  
استطاعت أم العبد العودة بكمية قليلة من الطحين، إلا أن المسنة أم صابر الصوير التي كانت ترافقها بنفس العربة عادت إلى منزلها خالية الوفاض، ولم تحصل على طحين من أقارب لها زارتهم لأجل نفس الغرض. وليست الحيوانات أيضاً بمعزل عن المجاعة التي تضرب جنوب القطاع، إذ يلفت محمود حبيب وهو سائق عربة، إلى أنه بحث عن رطل شعير لكنه لم يجد بسبب شحه ليرتفع سعر الرطل إلى نحو 70 شيكلا، ما يجعل حركة الحمار بطيئة بسبب الجوع.

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

وهذا الغلاء ينطبق على سائقي السيارات وعربات النقل (توك توك) بسبب شح زيت الطهي المستخدم حالياً بدل الوقود نتيجة منع إدخال السولار أو البنزين إلا بكميات قليلة، فضلاً عن ارتفاع سعر تعبئة أسطوانة الغاز في السوق السوداء لنحو 700 شيكل، علماً أن سعر تعبئتها قبل الحرب لم يزد عن 70 شيكلاً، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار بدلات النقل. 
يقول شاكر شقفة، وهو سائق عربة توك توك، لـ "العربي الجديد"، بينما كان ينقل مواطنين على عربته: "هناك غلاء كبير، وأنا بصفتي سائقا أريد العمل لأعود بشيء لإطعام أطفالي في ظل هذا الغلاء الفاحش الذي نعيشه". وأمام إحدى بسطات بيع الخضار وسط محافظة خانيونس، يحتار أنور صادق أي صنف يشتري، فاختار نبات الشبت بسبب الأسعار الخيالية للمنتجات الغذائية. أما قريبه حسين، وهو موظف بالسلطة الفلسطينية، فلم يستطع سحب راتبه من من المصرف عبر التطبيق بسبب ارتفاع العمولة وغياب السيولة. يقول حسين لـ "العربي الجديد": "كل الأسعار مرتفعة وأصبحت عاجزاً عن شراء أي شيء، سواء المنظفات أو المواد الغذائية أو حتى الملابس".

غزة (معز صالحي/ الأناضول)
يحاول إسكات جوعه (معز صالحي/ الأناضول)

ويساهم الاحتلال الإسرائيلي في تعميق الأزمة بسب إغلاق المعابر ومنع إدخال المنتجات، لكن عادل العقاد، وهو صاحب بسطة خضار وسط خانيونس، لا يعفي التجار من مسؤولية رفع الأسعار. صباح كل يوم، يذهب العقاد إلى سوق تجاري في المدينة يقع على شاطئ البحر ويسمى "الخان"، حيث تعرض الخضار المزروعة في القطاع أو المستوردة. ويوضح لـ"العربيالجديد": "يحدد لنا التجار الأسعار عندما نشتري، فعلى سبيل المثال اشتريت كيلوغرام البصل بسعر 47 شيكلاً، بالتالي سأبيعه بسعر 50 شيكلاً. المشكلة ليست منا وإنما بتكاليف وصولها إلينا وانتقالها بين التجار"، لافتاً إلى أن المشكلة بسعرها عند المعبر، إذ تتغير الأسعار عندما تحدث دورة تبادل تجاري يضاف إليها تكاليف التأمين.
بينما يشير العقاد إلى بسطته التي نفدت منها الكثير من الأصناف الزراعية لعدم إقبال المواطنين عليها، يلفت النظر لمشكلة أخرى تواجه البائعين والمواطنين على حد سواء وهي برفض تداول عملة العشرة شواكل، ما يسبب أزمة يومية أدت لتكدس هذه العملة لديه.
وعلى ذات البسطة، وبمجرد معرفة المواطن محمد رشوان سعر كيلوغرام من الأفوكادو والبالغ 50 شيكلا، أعاد الحبة التي تقلبت بيديه لثوانٍ لمكانها، وعبر بتعابير رسمتها ملامحه وصوته الغاضب لـ "العربي الجديد" عن استيائه من الأزمة، قائلاً بلهجة عامية: "الأفضل أن يبقى الشخص في خيمته". يضيف: "استطعت تأمين سلعتين من أصل عشر تحتاجها العائلة، وبقية الأصناف كلها ليست في متناول اليد بسبب ارتفاع سعرها"، معتبراً أن ما يحدث "افتراء وظلم".

معاناة يومية لتأمين ما تيسر من طعام (حسن الجدي/ الأناضول)
معاناة يومية لتأمين ما تيسر من طعام (حسن الجدي/ الأناضول)

من جهته، لم يتمكن رامي زعرب من شراء حذاء لطفله الذي اصطحبه إلى السوق، فغادرا والحزن على وجه الطفل الذي يسير بحذاء ممزق. يقول لـ "العربي الجديد" بنبرة غاضبة: "أسعار كل شيء مرتفعة. الخبز غير موجود، سعر الباذنجان مرتفع. اليوم حاولت شراء كيس طحين منتهي الصلاحية فطلب البائع 400 شيكل. أقف ساعات أمام المخبز وأحياناً أعود إلى البيت بلا خبز، وأصبحنا نأكل وجبةً واحدة في اليوم".
من جهتها، لم تنزل الحاجة أم أحمد الحولي وابنتاها إلى السوق لشراء الخضار أو البحث عن الطحين، بل كانت تبحث بين المحال عن ملابس لابنتها العروس، وتفاجأ بارتفاع الأسعار. تقول لـ "العربي الجديد": "كل شيء مرتفع. أسعار الملابس تفوق مقدرتنا، كما أن ابنتي مخطوبة منذ عام ونصف العام ووضعنا مهرها في المصرف قبل الحرب، والآن لا نستطيع سحبه بسبب إغلاقه وارتفاع نسبة العمولة". وتعيش العائلة في خيمة في منطقة المواصي، وقد غرقت الخيمة بفعل موجة الأمطار التي تأثر بها قطاع غزة.

سياسة تجويع

وكان برنامج الأغذية العالمي أعلن التزامه بتقديم الاستجابة الإنسانية اللازمة في غزة، مشيراً إلى أن  الإمدادات في وسط وجنوب القطاع تنفد. أضاف: بذلنا قصارى جهدنا لإدخال المزيد من المساعدات الغذائية لغزة، لكن الاستجابة الإنسانية للاحتياجات في القطاع توشك على الانهيار مع ازدياد خطر المجاعة.
ويؤكّد مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، أن الأزمة تفاقمت بسبب إغلاق المعابر والاكتفاء بإدخال 20 إلى 30 شاحنة في اليوم الواحد، يتم سرقة نصفها من قبل عصابات تحظى بحماية من جيش الاحتلال. بالتالي، يصل إلى الأسواق القليل من البضاعة، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بسبب زيادة الطلب وقلة العرض، بالإضافة إلى استهداف الاحتلال للمحال والأسواق التجارية وسياسة التجويع بحق الشعب الفلسطيني.
ويقول الثوابتة لـ "العربي الجديد"، إن "المنظمات الدولية فشلت في إدخال الدقيق إلى غزة"، متوقعاً أن "يكون هناك حل للأمر خلال الأيام المقبلة في حال ضغط المجتمع الدولي على الاحتلال". يضيف: "حتى اللحظة الأزمة كبيرة وحقيقية"، مشيراً إلى أن جيش الاحتلال يتعمد تأزيم الواقع الإنساني من خلال إغلاق المعابر ومنع تمرير المساعدات والطحين والمواد الغذائية.
وعن انعكاس الأزمة على حياة الناس، يوضح: "هناك مليونا نازح يعتمدون على المساعدات التي لا تدخل، ليجد النازح نصف وجبة كل ثلاثة أيام، وهذا يعمق الأزمة بشكل كبير"، لافتاً إلى وجود 3500 طفل دون سن الخامسة بحاجة لحليب الأطفال والمكملات الغذائية والحليب العلاجي، وهي غير متوفرة ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الوفيات، إضافة لاكتظاظ المستشفيات ونقص الغذاء والحليب. وتطرق إلى ظاهرة سرقة المساعدات، مؤكداً أن الجهات الحكومية في غزة بذلت جهوداً كبيرة من أجل منع السرقة وملاحقة المجرمين، لافتاً إلى أن الاحتلال يمنح العصابات التغطية الكاملة من الطائرات لتسهيل سرقة المساعدات ومنع اعتقالهم.

المساهمون