أقدم مئات من شباب المناطق والمحافظات الصحراوية في الجزائر أخيراً على الاستثمار في نشاط بيع الشاي والمشروبات الصحراوية المشهورة، ومختلف أنواع المكسرات والحلويات التقليدية، وأقاموا خيماً ومحلات خاصة بها، أهمها في المناطق الشمالية.
وقد شجّع التوافد الكبير لسكان المناطق الشمالية على محلات بيع الشاي الصحراوي خلال السهرات الليلية مئات من هؤلاء الشباب في تمنراست وبشار ووادي سوق وأدرار، على الاستثمار في مجال بيع الشاي والمكسرات، وفتح محلات تشبه الخيم الصحراوية التي تقام في الصحاري لاستقبال الضيوف. وبعدما اقتصر النشاط في البداية على استئجار محلات صغيرة وبيع الشاي وبعض المكسرات والمشروبات الصحراوية المتميزة وذات الفائدة الصحية الكبيرة، تطوّر النشاط مع نجاح الفكرة في اكتساب مئات من الزبائن الذين أدمنوا هذه المشروبات، فاغتنم الشباب الصحراوي الفرصة، وصار يبحث عن محلات كبيرة وطوابق كاملة حوّلها إلى ما يشبه خيماً أو صالونات صحراوية مزينة بأثاث وأدوات تعبّر عن تراث الجنوب، ومخصصة لجلسات تترافق مع موسيقى صحراوية خاصة ترحل بالزبون الى متعة الرمال والسياحة الصحراوية.
يشرح الشاب الثلاثيني عيسى بوسلام، المتحدر من منطقة تيميمون الصحراوية، والذي يملك محلاً في منطقة حجوط بمحافظة تيبازة لـ "العربي الجديد" أن "ثمة طريقة وخلطة سحرية للشاي الصحراوي أدمنها الجزائريون في الفترة الأخيرة". ويفسّر طريقتها بأنها "تمرّ بمراحل عدة تبدأ بملء إبريق صغير بماء وخلطه مع الشاي من دون إضافة النعناع، وتركه على نار هادئة لمدة 15 دقيقة، ثم تصفيته مجدداً لإعادة تسخينه دائماً على نار هادئة لمدة 15 دقيقة أخرى، لكن هذه المرة مع إضافة النعناع إليه. وبعدها تكرر العملية مرة ثالثة بالطريقة ذاتها، ما يجعل الشاي يخلط ثلاث مرات كي يكتسب نكهة خاصة. ويحدد سر الخلطة في فترة التسخين والغلي التي تجاوز 45 دقيقة على نار هادئة، ونوعية الشاي وطريقة تحضيره، "فحلاوة المذاق ونكهته الخاصة تجعلان الزبون يدمن شربه يومياً، وينسيه التوجه إلى المقاهي العادية".
إلى أعماق الصحراء
ويتفنن الشباب الصحراوي في تحضير مكسرات وحلويات لا يقاوم سحرها. يملك علي بن محمد، المتحدر من محافظة بشار الجنوبية، ويعتبر أحد الناشطين في مجال السياحة الصحراوية، محلاً كبيراً لبيع الشاي والمكسرات في محافظة البليدة، ويقول لـ"العربي الجديد": "حوّلت المحل إلى ما يشبه الخيمة الصحراوية، وزينته بأثاث صحراوي وغطاء صحراوي مشهور يُسمى "الحنبل"، يشعر الشخص لدى دخوله بأنه في بيت صحراوي أو في منطقة صحراوية. واهتممت بتعزيز روحية المكان بنغمات موسيقى صحراوية ترحل بالزائر بعيداً في أعماق الصحراء، وتعطيه السكينة والمتعة لشرب الشاي مع المكسرات خلال جلوسه على الأرض المفروشة بوسائد مغلفة ومزخرفة بألوان صحراوية".
يضيف: "نحاول أن نوفر كل ما يحتاجه الزبون من مكسرات وحلويات مختلفة المذاق والشكل والتركيبة، وكل وسائل الراحة، خاصة أن محلاتنا زادت شهرة في الفترة الأخيرة، فأصبح البعض يقصدوننا من مناطق مجاورة. أما في فصل الصيف، فننظم جلسات ليلية موسيقية بحضور فنانين صحراويين وفرق موسيقية لضمان المتعة، والتعريف بالثقافة الصحراوية".
واللافت أن بعض خيم بيع الشاي تحوّلت مع مرور الوقت إلى مقاهٍ أدبية يقصدها مثقفون. ففي منطقة بوزريعة بأعالي الجزائر العاصمة، حيث توجد جامعة الجزائر، حوّل مبارك سلطاني وشقيقه، المتحدران من منطقة أدرار في أقصى الجنوب، محلاً تخصَّص في بيع الشاي والمكسرات فقط إلى مقهى أدبي يضم جلسة صحراوية، واغتنما فرصة توافد مئات من الطلاب والأساتذة والباحثين الجامعيين على المطاعم القريبة والمحلات المتخصصة في النسخ وبيع الكتب العلمية، لإنشاء مقهى أدبي ومكتبة صغيرة، مع توفير خدمة الإنترنت، فامتزجت الأصالة بالأجواء العصرية داخل المقهى. وهما نجحا في جلب الزبائن المثقفين الذين يبحثون عن فضاءات لتبادل الأفكار والمطالعة من جهة، ومن جهة أخرى للاستمتاع باحتساء الشاي بالمكسرات.
ويقول مبارك لـ"العربي الجديد": "يحتضن المحل أحياناً كثيرة جلسات فكرية وندوات علمية صغيرة يناقش الأساتذة والطلاب فيها مختلف القضايا الراهنة وسط أجواء هادئة تمنحهم الإلهام والأفكار الإيجابية بعيداً عن ضوضاء الحرم الجامعي".
وهكذا صارت المقاهي العادية تفقد زبائنها لمصلحة محلات وخيم الشاي. ويوضح زبائن التقتهم "العربي الجديد" أن توافدهم على هذه المحلات يرتبط أيضاً بإغلاق المقاهي أبوابها مبكراً خلال فترة الليل، فيما تبقى محلات الشاي لتزيين سهراتهم، خصوصاً بعد صلاة العشاء، وتغدو أماكن لمواعيد تبادل الحديث وقضاء مختلف المصالح اليومية، وحتى المعاملات التجارية أحياناً.
من جهته، يقول الأستاذ الجامعي نسيم بن فرفود لـ"العربي الجديد": "أصبحت مدمناً شرب الشاي الصحراوي في محل أعتبره المفضل لدي، واحتساء مشروب تاكراويت المنعش والصحي المصنوع من أعشاب صحراوية، بعدما كنت قد أدمنت سابقاً القهوة، ما سبّب لي مضاعفات صحية، وعدم الشعور بالراحة خلال جلستي بسبب الضوضاء الكبيرة داخل المقهى".
ويؤيد هذا الرأي حمادة بلعبدي الذي يعمل في المقاولات، مؤكداً بدوره ميزة الخصوصية المهمة في هذه المحلات ذات الطابع الصحراوي، التي توفر مشروبات ومأكولات غير موجودة في المقاهي العادية.
ويفسّر المتخصص في علم الاجتماع الثقافي حليم مصطفى، في حديثه لـ"العربي الجديد"، تحوّل الجزائريين من المقاهي إلى خيم الشاي بأنه "نجاح للتسويق الثقافي وحب الاكتشاف الذي يميز أبناء الشمال الذين لم تسعفهم الظروف في تجربة السياحة الصحراوية، فهم يحاولون الرحيل إلى عمق الصحراء عبر جلسات مميزة داخل هذه الخيم". يضيف: "الشباب الصحراوي نجح في التسويق للثقافة الصحراوية، ونقلها الى منطقة الشمال بطريقة رائعة ومميزة، ما يظهر تعلقه بفرض ثقافته وشخصيته وتراثه بعدما عاش التهميش في مراحل تاريخية سابقة".