تهدد الاضطرابات النفسية التي تضاعفت منذ اندلاع الحرب اليمينة عام 2015 حياة المواطنين ومستقبل جيل كامل من أطفالهم، في ظل الاستجابة المحدودة للسلطات المحلية والمنظمات الدولية لهذا التهديد، باعتبارها تركز أنشطتها على معالجة الآثار الرئيسية للنزاع، وتتجاهل الشريحة الهائلة من المرضى النفسيين.
وفي ظل الانفجار الهائل الذي أحدثته الحرب في أعداد المصابين باضطرابات نفسية والعجز الكبير عن توفير الخدمات الصحية المطلوبة في كل المجالات، تشير تقارير دولية إلى معاناة واحد من كل خمسة يمنيين من اضطرابات نفسية اليوم، وعمل 45 طبيباً نفسياً داخل البلاد التي تحتضن أكثر من 30 مليون نسمة، ما يعني أن طبيباً نفسياً واحداً يغطي كل 700 ألف شخص.
مشكلة أزلية
في الأعوام التي سبقت اندلاع الحرب اليمينة، عانت خدمات الصحة النفسية في الأصل من نقص حاد في الكوادر المتخصصة والمرافق التي تقدم خدمات الدعم النفسي، ومن وصمة العار الاجتماعي المرتبطة بزيارة أي شخص لطبيب نفسي، وكذلك من عدم وجود وعي عام في المجتمع يدفع الناس إلى طلب استشارات نفسية.
وبسبب تفشي الجهل، خصوصاً في المجتمعات النائية والقبلية، لاحقت وصمة العار جميع طالبي خدمات الصحة النفسية، إذ كان يوصف الشخص المضطرب نفسياً بأنه مجنون أو على علاقة بأرواح شريرة.
وفي ظل غياب ثقافة الصحية النفسية، تعامل أهالٍ كُثر مع المضطربين نفسياً في أسرهم من خلال وسائل تقليدية لم تحسّن أوضاعهم بل جعلتها أكثر سوءاً. وينقل أهالي مرضى وعاملين في مرافق صحية نفسية في أحاديثهم لـ"العربي الجديد" شهادات عن تعرض مصابين باضطرابات لانتكاسات بسبب التعامل غير الصحيح معهم، وإخضاعهم لأساليب علاج خاطئة.
ويؤكد هؤلاء الأهالي أنهم عجزوا غالباً عن التعامل مع الحالات المرضية، خصوصاً للمصابين بمشاكل صعبة تستدعي علاجات متقدمة وإشراف اختصاصيين عليهم. ويكشف بعضهم أنهم لجأوا مرات إلى أساليب "غير إنسانية" بينها تقييد المرضى بسلاسل حديدية في أقدامهم لمنعهم من الحركة، أو سجنهم في غرف انفرادية لا يحصلون فيها سوى على طعام من نافذة صغيرة.
ويعكس ذلك الاعتقاد السائد حينها بأن هذه الوسائل العقابية تجعل المرضى يعودون إلى رشدهم، أو تحمي باقي أفراد الأسرة أو سكان الحي منهم والذي يرون أنه لن يحصل إذا تركوهم يسرحون ويمرحون على أهوائهم بلا أي رادع.
وإلى الأساليب "غير الإنسانية"، عالج بعض الأهالي المرضى النفسيين باستخدام طرق تقليدية أقرب إلى الخرافات، بينها اقتياد المرضى إلى معالجين بالقرآن الكريم، أو مراكز زعمت تقديمها علاجات بالرُقية الشرعية.
وتتحدث مصادر طبية في مدينة تعز لـ"العربي الجديد" عن "انتشار المعالجين بالقرآن الكريم في شكل كبير خلال العقد الماضي، وممارستهم المهنة تحت غطاء وراثة أساليبها من أهاليهم، وفتحهم مراكز لتقديم خدمات لا تخضع لأي رقابة حكومية، ما يجعلهم يشكلون خطراً كبيراً على المرضى النفسيين، كونهم يتعاملون مع كل الحالات على أنّها مصابة بسحر ومسّ غير طبيعي مصدره خرافات يعالجونها بالضرب أو الكي بالنار لاعتقادهم بأنها تساعد في طرد الأرواح الشريرة، ولإيهام الأهالي في الوقت نفسه بأن الجلسات نجحت في شفاء المرضى.
وباعتبار أن الحالات النفسية كانت فردية خلال فترة ما قبل الحرب، وتنحصر أسبابها في الصدمات العاطفية الحادة أو تلك الناتجة عن عنف مفرط، لم يكن مرضاها يجدون الاهتمام الجدي من قبل السلطات الصحية المتعاقبة.
عصر الحرب
وبالانتقال إلى السنوات التي أعقبت اندلاع الحرب فشهدت انفجاراً هائلاً في أعداد المصابين باضطرابات نفسية، بعدما وجد ملايين اليمنين أنفسهم عاجزين عن الصمود أمام ظروف وتحديات استثنائية لم يسبق أن تعاملوا معها.
وفي ظل قلة المرافق الحكومية التي تقدم العلاجات النفسية، استحدثت منظمات دولية، منها "أطباء بلا حدود" ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، أقساماً وعيادات لتقديم استشارات ودعم نفسي، والتي استقبلت آلاف الأشخاص شهرياً في كل المحافظات، خصوصاً تلك التي تشهد معارك محتدمة.
وإلى جانب الحالات الكثيرة التي عانت من قلق وأرق واكتئاب، كشفت "أطباء بلا حدود" في تقرير حديث أصدرته أن "عياداتها تستقبل مرضى سبق أن نفذوا محاولات انتحار تختلف أسبابها بحسب الظروف، وتظهر عليهم أعراض لاضطرابات شديدة، بينها هلوسات في السمع يقولون إنها تطالبهم بإيذاء أنفسهم، وأخرى ترتبط بحالات الاكتئاب الحاد".
ويستعرض الدكتور عدنان القاضي الذي يرأس مركز الإرشاد والدعم النفسي في جامعة تعز أسباب تدهور الحالات النفسية لملايين اليمنيين، ويقول لـ"العربي الجديد" إن "الحرب وسوء الوضع الاقتصادي الناتج من انهيار العملة الوطنية وتذبذب سعر صرفها، والقصف المستمر وانتشار الأوبئة، خصوصاً جائحة كورونا، ساهمت كلها في تردي الوضع وتفاقم الاضطرابات النفسية".
ويشير إلى عدم وجود إحصاءات رسمية تحدد مدى انتشار الأمراض النفسية داخل اليمن، "لكن دراسات أجرتها مؤسسات تعنى بالدعم النفسي تتحدث عن تضاعف الحالات نحو 200 في المائة خلال الحرب".
ويرجح القاضي "معاناة مليوني يمني من أمراض نفسية، أكثرها انتشاراً الفصام والهوس وثنائي القطب، والأمراض العصبية الأخرى مثل الاكتئاب الحاد وحالات الهلع وقلق ما بعد الصدمة والهستيريا والتبول اللاإرادي والنشاط الزائد وكوابيس النوم والتأتأة لدى الأطفال. وقد تفاقمت هذه الحالات كلها بعد الحرب".
وفي شأن الشرائح المتضررة، يوضح القاضي أن "أكثر المتضررين نفسياً هم الفئات الأضعف غير القادرين على الاستجابة للضغوط النفسية، خصوصاً النساء والأطفال، إلى جانب ذوي الإعاقات والنازحين والمهمشين الذين فقدوا أشياء مهمة في حياتهم خلال الحرب".
استجابة خجولة
ورغم ضرورة التعامل بسرعة مع النتائج السلبية للنكسات النفسية لليمنيين، تبقى الاستجابة الحكومية والدولية خجولة حتى اللحظة مع متطلبات معالجة تفاقم الظروف المعيشية والاقتصادية، وفقدان مصادر الدخل وباقي الأسباب التي تهدد ملايين اليمنيين باضطرابات نفسية حادة.
وكانت منظمات دولية قد أعلنت عن برامج للاهتمام بالصحة النفسية لليمنيين خلال عامي 2018 و2019، لكن انحسار مصادر التمويل من المانحين أوقفها، بحسب ما يبلغ مصدر في الأمم المتحدة "العربي الجديد"، موضحاً أن "المنظمات الدولية، وتحديداً منظمة الصحة العالمية وأطباء بلا حدود والصليب الأحمر قدمت جلسات دعم نفسي لعشرات آلاف اليمنيين عبر مكالمات هاتفية أو زيارات لعيادات متخصصة في نحو 180 مرفقاً صحياً. كذلك عملت هذه المنظمات بالتعاون مع مراكز إقليمية، منها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، لتقديم جلسات دعم نفسي وتخصيص مساحات صديقة لآلاف الأطفال الذين أصيبوا بصدمات جراء الحرب وأصوات الانفجارات، أو لأولئك الذين جرى تجنيدهم تحت السن القانونية من أجل تحقيق هدف إعادة دمجهم في المجتمع".
وتؤكد تقارير للأمم المتحدة أن غالبية الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية تحتاج إلى رعاية طبية وتقديم أدوية شاملة، وليس الاكتفاء بتقديم جلسات دعم نفسي.
ونظراً إلى انشغال المجتمع الدولي بمعالجة الأضرار الرئيسية للحرب، وفي مقدمها منع حصول مجاعة وشيكة، سيعاني ملايين من المصابين باضطرابات نفسية بصمت داخل منازلهم، خصوصاً في ظل استمرار النظرة الاجتماعية الضيّقة ووصمة العار التي تجعلهم يحجمون عن طلب دعم نفسي.
ومع اتساع رقعة الحرب وتردي الأوضاع في كل المجالات، من المؤكد أن تداعيات الأزمة على الصحة النفسية لليمنيين ستُلقي بظلالها لسنوات عليهم، "ما يستوجب اتباع نهج شامل وطويل الأمد لتوفير خدمات معالجة المشاكل النفسية التي تلوح في الأفق، بحسب ما تطالب به تقارير دولية".