كانت إيمانويلا أورلاندي عائدة من درس للعزف في مساء 22 يونيو/ حزيران 1983، قبل أن تختفي في مدينة الفاتيكان، ولا تزال أسرتها وناشطون يطالبون بالكشف عن التفاصيل، متهمين الفاتيكان بالتستر على اختفائها.
أعلن الفاتيكان، أخيراً، فتح تحقيق لكشف الحقيقة حول مصير الفتاة التي كان عمرها 15 سنة حين اختفائها قبل أربعة عقود، وتعهد أن يكون التحقيق شاملاً، معتبراً أنه "سيمنح العائلة أملاً جديداً"، حسب ما ذكرت محامية العائلة، التي عبرت عن "الأمل في الحصول على إجابات".
وأثارت شبكة "نتفليكس" القضية من خلال سلسلة وثائقية بعنوان "فتاة الفاتيكان"، ما دفع شقيق الفتاة المختفية، بيترو أورلاندي، ومحامية العائلة لورا سيغرو إلى إعادة طلب تقديم أجوبة شفافة عن الاختفاء، وخصوصا بعد فتح قبرين لشخصين مجهولين في 2019، في محاولة تقفي أثر إيمانويلا، من دون نتيجة حاسمة.
وفي 2015، تقدم كبير المدعين العامين في روما، جوزيبي بيغناتون، بطلب للتحقيق في اختفاء الفتاة أورلاندي، وشابة أخرى تدعى ميريلا غريغوري، اختفت قبلها ببضعة أسابيع.
ومع تحول قصة أورلاندي إلى قضية رأي عام في إيطاليا، اتهم شقيقها ضمنياً القائمين على الدولة الصغيرة، مشدداً على أن "الحقيقة موجودة في مكان ما. أنا مقتنع أن كثيرين في الفاتيكان يعرفون ذلك. وهناك عناصر لم يتم التحقيق فيها عمداً".
وكانت إيمانويلا، ابنة موظف في منزل البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني، وظل اختفاءها يثير الكثير من الغموض طيلة العقود الماضية، مع عدم اكتمال أي تحقيق جنائي أو صحافي بسبب سرية المعلومات في الفاتيكان.
على بعد مئات الأمتار فقط من قبة كنيسة القديس بطرس، اختفت التلميذة ذات الشعر البني، وشكل اختفاؤها مادة دسمة للتخمينات والشائعات التي تربطها بأسماء كبيرة في الفاتيكان، ووصل الأمر إلى اتهام البابا بولس الثاني، أو المافيا الإيطالية، بالتورط.
وكررت أسرتا الفتاتين المفقودتين الوقفات الاحتجاجية أمام مقر الكرسي الرسولي بحثاً عن أجوبة جادة، ثم أعطت سلسلة "فتاة الفاتيكان" الوثائقية دفعة قوية لعودة الملف إلى الواجهة مجدداً، حتى وصل الأمر إلى اتهام الكرسي الرسولي بالتستر على الحقيقة.
في عام الاختفاء، كانت إيمانويلا ضمن خمسة أشقاء ولدوا في دولة الفاتيكان المستقلة في وسط روما، وكان والدها مسؤولاً إدارياً في الدولة الصغيرة، بينما ارتاد الأطفال مدارس خارج أسوار الفاتيكان، وكانت إيمانويلا مهتمة بالموسيقى، وانضمت إلى جوقة تعلمت فيها العزف على الفلوت. وحين اختفت، لم تقم الشرطة بأي عمل جدي للبحث عنها، حسب قول شقيقها الأكبر في مقابلات تلفزيونية وتصريحات، مشدداً على أن الأسرة هي من قامت بالبحث عنها، وليس السلطات، كما انتشرت ملصقات صممتها الأسرة، وساهم المئات في عمليات البحث من دون نتيجة.
وظلت تحقيقات الشرطة الإيطالية خلال الأيام الأولى مرتبطة برجل مسن عرض على الفتاة العمل في محله لبيع العطور، ولم يمض وقت طويل حتى اضطر البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني إلى ذكرها في خطبة له في 3 يوليو/تموز 1983، قائلاً: "لن نفقد الثقة في إنسانية المسؤولين عن هذا الأمر. الأمل هو أن تعود إلى عائلتها".
لكن المؤمنين بنظرية المؤامرة اعتبروا أن مناشدة البابا المسؤولين عن اختطاف الفتاة إشارة إلى تورط أشخاص من داخل الفاتيكان، ما فتح الباب على سنوات طويلة من الحديث عن مؤامرة.
في نفس العام، تلقت الأسرة مكالمة من رجل أطلق على نفسه اسم "الأميركي"، وأبلغها بمطالبة السلطات الإيطالية بالإفراج عن التركي محمد علي أغكا، الذي حاول اغتيال البابا في مايو/أيار 1981، مقابل إعادة إيمانويلا أورلاندي. لكن أغكا نفسه أدان عملية اختطاف الفتاة، وأبلغ الشرطة أنه تلقى تدريبات من قبل المخابرات السوفييتية "كي جي بي".
توالت النظريات التي تربط الفاتيكان بعلاقات مع المافيا الإيطالية، وحاولت الشرطة الإيطالية التحقق من بعض المعلومات التي وصلتها عن رابط بين الاختطاف والعثور على مدير بنك "أمبروسيانا"، روبرتو كالفي، مشنوقا تحت جسر في العاصمة البريطانية لندن في 1982، إذ اعتبر البعض أن عشيرة المافيا "دي بيدس" هي من قامت بالاختطاف كنوع من الابتزاز لاستعادة أموالها من البنك الذي انهار.
وفي عام 2004، سار المحققون الإيطاليون وراء نظرية ارتباط زعيم تلك العصابة، إنريكو دي بيديس، بقضية أورلاندي، خصوصاً أنه كان عضواً في المنظمة الكاثوليكية الحصرية، وقريباً من القساوسة والكاردينالات، لكن من دون جدوى أيضاً.
في الوثائقي الذي بثته "نتفليكس" حديثاً، ظهرت الشريكة السابقة لزعيم المافيا الذي رحل في عام 1990، صابرينا ميناردي، لتزيد الطين بلة، إذ اعترفت بوجود تعاون بين المافيا والكرسي الرسولي، وأكدت نظرية المؤامرة الرائجة بالقول إنها "ساعدت إيمانويلا أورلاندي بينما كانت مخدرة في ركوب سيارة بي إم دبليو سوداء في يوم اختطافها"، مضيفة أن الفتاة جرى نقلها إلى منزل خارج المدينة، "وفي اليوم الحادي عشر من الاختطاف، أُعيدت إلى روما، وأنزلت في محطة بنزين صغيرة في الفاتيكان، وأخذها بعيداً كاهن، أو شخص متنكر في زي كاهن"، كما ظهرت سيدة مجهولة في الوثائقي، أشارت إلى نقل الفتاة إلى لندن بعد أسابيع من تسلمها من الكاهن.
ومع تراكم الفضائح، تم ربط قضية اختفاء الفتاتين بوقائع الاعتداءات الجنسية في الفاتيكان، وتلقى الصحافي الاستقصائي، إميليانو فيتيبالدي، معلومات تؤكد أنه كان هناك ملف سري حول إيمانويلا أورلاندي، وأن الملف اختفى فجأة، وأكد مصدره أنه بحوزته صورة عن الملف الذي يحتوي على تفاصيل مصاريف إقامة وعلاج الفتاة في لندن، خلال الفترة من 1983 إلى 1997، في مقر إقامة تابع للكنيسة الكاثوليكية، ومرتبط مباشرة بالفاتيكان، ما دفع فيتيبالدي إلى بدء البحث والتقصي لتقديم أجوبة حول القضية.
وقبيل أعياد الميلاد الأخيرة، دعا برلمانيون وسياسيون من حزبي فورزا إيطاليا وأزوني إلى تشكيل لجنة برلمانية للضغط على الفاتيكان للإفصاح عن جميع المعلومات حول القضية، ورغم أنه لا توجد أسس قانونية لإجبار الكرسي الرسولي كدولة مستقلة على أي شيء، إلا أن السناتور كارلو كاليندا أكد، في تصريحات لوسائل إعلام محلية، أن "احترام الدولة الإيطالية للفاتيكان ودوره كدولة ذات سيادة، وتعاليمه الروحية، لا يجب أن تخضعنا بأي حال من الأحوال".