على صوت الدق المتواصل، يجلس الخمسيني المصري عبد التواب ممسكاً "عود الجريد" بيديه، يحركه يمنة ويسرة بقدميه بسرعة. لم يسمع السلام الذي ألقيناه عليه من شدة الدق بكتلة خشبية يمسكها بيده اليمنى، يهوي بها على مسمار مفرغ من الداخل يطلق عليه اسم "لقطة" تمسكه يده اليسرى، ليخرم به عود جريد النخيل الذي تدفعه قدم بين أنامل القدم الأخرى.
خاب ظنه بعدما هم لاستقبالنا، إذ تخيلنا زبائن، فإذا بنا نفاجئه بالرغبة في تسجيل لقاء عن حرفته التراثية "قفاص".
أراد عبد النبي أن يظهر لنا مهاراته التي اكتسبها من العمل منذ نعومة أظفاره بإطلاعنا على المنتجات العديدة التي يبدع في صناعتها. تتراص حوله عشرات القطع الجاهزة من الأسِرة، والمقاعد الصغيرة والكبيرة، وطاولات، وكلها مصنوعة بإتقان من جريد النخل، وبعضها تكسوه الأتربة، كما تتناثر مئات الأقفاص التي تستخدم أعشاشاً للحمام والدواجن، وأخرى أصغر لتعبئة الفواكه والخضراوات.
استوقفنا "القفاص" عند مظلة عملاقة، قطرها 4 أمتار، مصنوعة من عيدان "نبات الحنة"، ويشيع استخدامها في المناطق السياحية والشواطئ وحدائق الفيلات، ليخبرنا أنها من إنتاج زميل آخر، راح يبحث عن مصدر دخل بدلاً من صنعته الراكدة، بعد أن طال انتظاره بيع المشغولات عدة أشهر.
يهوى عبد النبي صناعة "أرابيسك الجريد"، وقد ورث المهنة أبا عن جد، حيث وُلد بمحافظة الفيوم المشهورة بأنها مهد صناعة الأثاث من جريد النخيل في مصر منذ عهد الفراعنة، والتي انتقلت المهنة منها إلى محافظات قنا وسوهاج، واشتهرت بها على مر العصور مدن، مثل المغاغة والمرازيق في الصعيد، فضلاً عن دمياط ورشيد، ومحافظات البحيرة والدقهلية والشرقية.
يروي الرجل حكايته مع مهنة "القفاص" بينما يده لا تتوقف عن الطرق، وعيناه مركزتان صوب عود الجريد الذي يحركه بأطرافه الأربعة، فهو يخشى ألا ينهي "الطريحة" اليومية التي يسعى لإنجازها خلال 15 ساعة عمل متواصلة. يحاول الانتهاء من صناعة 20 صندوقاً لتعبئة الطماطم، ليحصل على 100 جنيه من صاحب الورشة، يعود بها إلى زوجته. عادة، لا ينجز هذا العدد، فالعمل يدوم حسب طلبات العملاء، وإن لم يتوفر طلب من عميل فلن يحصل على مال ليطعم أولاده. لكن حان موسم جني الطماطم، وأمامه فرصة لصنع ما بين 15 إلى 20 قفصاً يومياً، خلال الفترة من السادسة صباحاً، إلى العاشرة مساء.
يعول عبد النبي أسرة مكونة من أم، وابنتين تجاوزتا العشرين، وولد ما زال في المدرسة، ويتمرد على مهنة والده، علماً أنّها تتيح للعائلة مصدر دخل كريم. يتذكر القفاص الخمسيني كيف كانت مهنته تضم عشرات آلاف الأسر قبل عقود، وكانت تدر عليهم الكثير من المال عبر بيع أطقم أرابيسك الجريد، والبراويز، والمقاعد، وغيرها من مستلزمات المنازل التي يقبل عليها الفقراء، كما يفضلها الأغنياء بمنازلهم الفخمة، وكذا شاليهات الشواطئ.
يقول عبد النبي: "جار الزمان على الصناعة وأهلها بعد انتشار المقاعد والمنتجات البلاستيكية المستوردة من الصين، والمعاد إنتاجها من مخلفات القمامة، وأغرقت الأسواق بصناديق تعبئة الفاكهة والخضراوات البلاستيكية، فلم يبق أمام الصناع إلا عمل قليل من أقفاص الطماطم والخبز".
حالياً، يباع قفص الطماطم من الجريد بنحو 8 جنيهات، وقفص الخبز بثلاثة جنيهات، ويبلغ سعر الطاقم من مقاعد الجريد الوثيرة ما بين 2000 و3000 جنيه (الدولار الأميركي يساوي نحو 25 جنيهاً مصرياً).
يمر العمل بمراحل طويلة من الجهد والشقاء، تبدأ بشراء عود الجريد بسعر يبدأ من جنيه إلى 4 جنيهات حسب نوعية النخيل، إذ تتعدد أنواع النخيل، ومن بينها السماني، والزغلول، والصعيدي، لكن أفضلها هما البلدي، والحياني.
يقشر "القفاص" الجريد الأخضر بعد نحو أسبوع من قطعه، ويلقي بـ "المخ" وهي القطعة الثخينة في أسفل العود، بعيداً، ثم يسحب "التوني" وهو الجزء الأوسط من عود الجريد، بـ"المقشط"، ويقوم بتقطيعه مع "الطوالي"، وهو نهاية عود الجريدة، ويكون ذلك وفقاً للرسم الذي يستهدفه.
يبدأ الإنتاج بالتقطيع والتخريم، ويعقب ذلك تجميع الجريد وفقاً للشكل المطلوب، في رحلة تحتاج إلى كثير من الصبر والعرق والخبرة، ولا يجني من يقوم بها إلا القليل من المال، رغم ذلك، يظل عبد النبي أسيراً لها، لأنه يحبها، كما أنه لا يجيد سواها.
تفتخر الحكومة بأن مصر أصبحت الدولة الأولى في تعداد النخيل وإنتاج التمور إقليمياً، فهناك 1.5 مليون نخلة تحتاج إلى تقليم دائم، بما يحسن جودة التمور، ويحافظ على حيوية النخلة. تنتج كل نخلة نحو 40 جريدة سنوياً، ويقلمها "النخال" على مدار العام، عدا شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، إذ يحظر قطع الجريد كونه موسم التمور، وإذا لم يستفد منها "القفاصون" يتحول معظمها إلى مخلفات.
قدمت مؤسسة فريدرش ناومان الألمانية، منذ نهاية العقد الأخير من القرن الماضي، معونات مالية لتدريب عاملين بالأجهزة الحكومية على الاستفادة من الجريد في صناعة الأثاث والخشب الحبيبي، وإنتاج احتياجات المنازل والمكاتب، وأنشأت المؤسسة مصنعاً في محافظة الوادي الجديد، ليكون نموذجاً لتعبئة وتغليف التمور في أكبر منطقة لزراعة النخيل، بهدف تحسين المحصول، وتصديره إلى المحافظات المجاورة، أو إلى بلاد الخارج، وأتبعته بمصنع آخر ينتج أثاثاً من الجريد.
لم يجد الإنتاج المتميز للمصنع تشجيعاً من المسؤولين، رغم اهتمامهم بمهن أقل ربحاً وتشغيلاً للعمالة، فتوقف العمل بعد انتهاء أموال المعونة، وتحولت ساحة المصنع إلى خراب، ثم بيعت مزرعته مؤخراً.
يتحسر عبد النبي الذي عاصر تلك التجربة على نهايتها، ويقول إنه كعاشق لمهنته، كان يراها باب خير لآلاف الأسر التي تبحث عن عمل شريف، ويؤكد أنه تعجّب بينما كان يشاهد عبر التلفزيون وقائع "المؤتمر الاقتصادي" الذي ضم قادة الدولة ورجال الأعمال، عندما قال أحدهم، إنّ "الاقتراض للمرة الثالثة من صندوق النقد في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، لن يحل أزمة مصر الاقتصادية، وإنما الحل في زيادة الإنتاج، وتقليل الواردات".
لم يحصل "القفاص" الخمسيني على فرصته من التعليم الإلزامي، لكنه يستنكر تحميل الحرب في أوكرانيا مسؤولية المصائب التي حلت بالأسواق، وارتفاع أسعار الخامات. يقول إنه سمع كلمات ذكرتها الوزيرة رانيا المشاط (وزيرة التعاون الدولي)، مفادها مساعدة الدولة للمشروعات المتوسطة والصغيرة بمبلغ 400 مليار جنيه، وتوفير الدعم الفني والمالي للورش، وتدريب أصحاب المشروعات على تحسين الإنتاج وزيادة البيع.
حينها، طلب من صاحب الورشة، أبو كريم الفيومي، أن يغلق التلفزيون، أو يحول إلى قناة أخرى تلهيه عن حاله. ينظر بحسرة إلى ما حوله من منتجات راكدة منذ أشهر، ويقول: "أليس الأولى أن تساعدنا الست الوزيرة في تسويق هذه المنتجات التي لا تحتاج إلا إلى قليل من الاهتمام؟". ويضيف بغضب: "ذكرتني تلك الكلمات بالمأساة التي نعيشها. هؤلاء يأخذون المال باسم الفقراء، وعندما ينفد مالنا لا تجدهم، يتركونك بلا دخل ولا علاج ولا معاش، هكذا فعلوا من قبل في الوادي الجديد. حلبوا المنحة التي وجهها الأجانب لبناء مصانع الأخشاب والموبيليا من الجريد، وعندما أوشك المشروع على النجاح، شردوا العمال، فلم نرَ مشروعاً كبيراً ولا صغيراً".