كشفت فرنسا، قبل أيام، عن فكرة توفير مستشفى عائم محمل بالمعدات الطبية ومجهز بغرف العمليات والعيادات التخصصية قبالة سواحل قطاع غزة، كبديل عن المستشفيات والطواقم الطبية في القطاع، وتحظى الفكرة بقبول أوروبي، وقبول مبدئي إسرائيلي مع ترويج كونه حلاً لتأمين العلاج لآلاف المرضى والمصابين عبر طواقم دولية.
في المقابل، يرفض أطباء غزة الفكرة، ويعتبرونها جزءاً من مخطط الاحتلال الإسرائيلي لوقف العمل بالمستشفيات الموجودة في القطاع، أو مقدمة لتبرير قصفها ومعاقبة الطواقم الطبية فيها، في حين يصنفها البعض كإحدى محاولات تسهيل سيطرة الاحتلال على القطاع، أو تصعيد حصاره ومراقبته لكل ما يدخل إلى قطاع غزة أو يخرج منه.
يقول طبيب الطوارئ إياد أبو موسى، من مجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس، لـ"العربي الجديد": "منذ بداية العدوان الإسرائيلي، رفضت الأطقم الطبية الانصياع لمطالب إخلاء المستشفيات، ما جعل العدو يكرر ترويج الأكاذيب حول أن المستشفيات يتم استغلالها من المقاومة الفلسطينية، أو وجود أنفاق تحتها للمقاومة، وكل هذه الادعاءات عارية من الصحة، وطائرات الاستطلاع الإسرائيلية تراقب كل مناطق القطاع، وأي حركة تجري داخل المستشفيات هدفها علاج المصابين، كما أن جميع المستشفيات تكتظ بالنازحين الموجودين في كل مرافقها. على المجتمع الدولي إدخال المعدات الطبية والأدوية اللازمة عبر معبر رفح، وليس إيجاد بديل مشكوك فيه لمستشفيات القطاع".
تحظى فكرة المستشفى العائم بقبول أوروبي واسع وموافقة إسرائيلية
وتضمن الإعلان الفرنسي إرسال السفينة "تونير" لدعم مستشفيات قطاع غزة، وكان مفاجئاً أن الاحتلال أبدى موافقته على عملها بينما تواصل غاراته تدمير مستشفيات القطاع، في حين بدأت مصر منذ اليوم الـ22 للعدوان استقبال أعداد محدودة من الجرحى عبر معبر رفح.
وحسب المصادر الفرنسية والأوروبية، فإن السفينة المستشفى العائم "تونير" ستنطلق من جزيرة قبرص باتجاه ميناء العريش في مصر، ثم إلى قبالة معبر رفح، على أن يتم نقل المعدات والتجهيزات الطبية إليها عبر مروحيات وطائرات نقل فرنسية، وهناك مستشفى عائم ثانِ جاهز للتحرك من ميناء تولون الفرنسي، يضم نحو 60 سريراً وجناحين للعمليات الجراحية، و20 طبيباً وفرق تمريض فرنسية.
وسجلت الطواقم الطبية في قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي أكثر من 10 آلاف شهيد ونحو 3 آلاف مفقود، وارتكب الاحتلال نحو 1050 مجزرة، فيما أصيب أكثر من 25 ألف فلسطيني، واستشهد 192 من أفراد الطواقم الطبية، ودمرت أكثر من 50 سيارة إسعاف، ولحقت أضرار بـ113 مؤسسة صحية، وخرج عن الخدمة 18 مستشفى و32 مركزاً صحياً.
من جانبه، قال المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة إن "الاحتلال الإسرائيلي واصل على مدار شهر من العدوان استهداف المؤسسات الصحية، كما استهدف مقرات طبية حكومية وأخرى خاصة في الآونة الأخيرة، وكان آخرها مركز السرطان الوحيد لعلاج الأطفال في غزة، وهو تابع لمؤسسة إغاثة أطفال فلسطين، فضلاً عن استهداف ثان لمستشفى الرنتيسي التخصصي للأطفال، وقصف مستشفى الصحة النفسية الوحيد في قطاع غزة. يريد الاحتلال تدمير العيادات التخصصية التي تقدم الخدمات لفئات من المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية خاصة من أجل إخضاع الغزيين ودفعهم إلى الاستسلام".
يضيف القدرة متحدثاً لـ"العربي الجديد": "نرفض فكرة توفير بديل عن مستشفيات قطاع غزة الذي يجري تسويقه حالياً عبر الحديث عن مستشفى عائم قادم إلى غزة، ونرفض استمرار غض النظر عن تعطيل تقديم المساعدات ومنع تلبية احتياجات القطاع الطبي الحقيقية. مستشفيات غزة مصممة لتقديم الخدمات المتكاملة، والطواقم الطبية واصلت تطوير قدراتها لإنقاذ الأرواح رغم كل ظروف الحصار، وأي فكرة أو مبادرة يوافق عليها الاحتلال مشكوك فيها، وهو حالياً يروج لممرات آمنة كاذبة، ثم يقوم بقصف من يستخدمونها، وقد وثقنا مئات الشهداء الذين ساروا في هذه الممرات القاتلة".
استقبلت مصر أعداداً محدودة من الجرحى الغزيين عبر معبر رفح
يتابع: "أحياناً لا تستطيع الطواقم الطبية الوصول للجثامين، ونطالب المجتمع الدولي بإجراءات فاعلة لحماية المنظومة الصحية، وتزويد مستشفيات القطاع التي لا تزال تعمل بالمعدات والأدوية، وتطبيق القوانين الدولية الإنسانية لحماية المنشآت الطبية".
بدوره، أكد مكتب الإعلام الحكومي في غزة في بيان سابق، أنه "خلال 17 يوماً منذ بدء إدخال المساعدات، دخلت قطاع غزة 522 شاحنة مساعدات إنسانية، وهذا الرقم يساوي ما كان يدخل للقطاع يومياً قبل العدوان الإسرائيلي، وفي ظل احتياج المواطنين لكل مستلزمات المعيشة، هذه المساعدات لا تمثل نقطة في بحر الاحتياجات".
يواصل الجراح الفلسطيني البريطاني غسان أبو ستة العمل في مجمع الشفاء الطبي، وهو أكبر مستشفيات القطاع، وهو يرفض فكرة استقدام مستشفى عائم بإشراف أوروبي، مؤكداً أن الاحتلال يبحث عن نصر استراتيجي يسعى من خلاله إلى خلق بديل عن مجمع الشفاء في ظل المساعي المتواصلة لتدميره كونه يعتبر قلب مدينة غزة النابض.
ويتساءل أبو ستة عن كيفية استيعاب آلاف المرضى في مستشفى عائم، ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد": "ما تم الإعلان عنه من عدد الغرف والأسرة وغرف العمليات يبين أن الأمر مجرد دعاية، وليس فيه مساعدة حقيقية لقطاع غزة. من يريد إنقاذ القطاع الطبي يتوجب عليه تقديم المساعدات بشكلِ مباشر لمستشفيات قطاع غزة، مع إمكانية وجود طرف دوليّ أو جهات دولية مثل الصليب الأحمر لنقلها بطريقة تتلاءم مع نظام المؤسسات الدولية والقانون الدولي الإنساني، وينبغي وقف قصف المستشفيات فوراً، لقد قصفوا ألواح الطاقة الشمسية في مستشفى الشفاء، يوم الاثنين الماضي. يريدون فرض مستشفى يتم نقل معداته جوياً، بينما إرسال مساعدات للمستشفيات القائمة أسهل. الواقع أن الإسرائيليين يريدون مواصلة القتل مع تجميل صورتهم الإنسانية عبر السماح بجلب تلك السفينة".
ويعدد الطبيب أبو ستة الحلول المنطقية لإنقاذ القطاع الطبي في غزة، وأولها تزويدها بالوقود لتشغيل غرف العمليات بشكلٍ أساسي بعد توقف عدد منها بسبب نقص المعدات ومصادر الطاقة، ثم تزويد المستشفيات بالمستهلكات الطبية الأساسية لأقسام الطوارئ، وضمان وجود ممرات آمنة لإدخال المساعدات بحماية دولية، مع ضمان تسليمها إلى مستشفيات القطاع.
ويوضح أن "الاحتلال يبحث عن أي نوع من النصر، ويركز أخيرًا على مجمع الشفاء الطبي، إذ يسوق أنه مكان خطير يجب تدميره، وسياسات الموت تلك مرتبطة بذهنية المحتل، وهي جزء من تطبيق سياسة الأرض المحروقة، خصوصاً في مناطق مثل تل الهوى، ومخيم الشاطئ وصولاً إلى الدخول لمحيط مجمع الشفاء، وتصوير دبابة إسرائيلية أمامه، باعتبار أن هذا انتصار".
ويشير أبو ستة إلى أنه يواصل في الوقت الحالي إجراء العمليات الجراحية في مستشفيين بعدما بات متعذراً الوصول إلى مستشفى القدس في تل الهوى نتيجة قطع الاحتلال الطرق المؤدية إليه، مؤكداً أن "الطواقم الطبية تتجه حالياً إلى منح المصابين مسكنات الآلام الخفيفة مثل الباراسيتامول والديكلوفين بعد العمليات الجراحية، وهي عقاقير لا يمكنها تسكين آلامهم. كل ما أقرته البشرية من قوانين تختفي عندما تكون إسرائيل هي الموضوع".
وحسب الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، فإن العدوان الإسرائيلي قتل وأصاب قرابة 2 في المائة من سكان قطاع غزة خلال شهر واحد، كما تسبب في تشريد ونزوح نحو 70 في المائة من السكان. يقول رئيس الهيئة الحقوقية صلاح عبد العاطي، لـ"العربي الجديد": "انتهك الاحتلال الإسرائيلي العديد من المواثيق الدولية، أهمها قواعد القانون الدولي الإنساني، وكل أعراف الحرب، خاصة اتفاقيات جنيف ولاهاي، وميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية حقوق الطفل".
ويضيف عبد العاطي: "ما يجري الآن هو جرائم حرب، والهدف منها تدمير كل مقومات الحياة في قطاع غزة، سواء في شماله المهدد، أو في جنوبه الذي يدعي الاحتلال أنه منطقة آمنة، وهذا استكمال لمشروع تهجير سكان قطاع غزة عبر ضرب كل أسس الحياة فيه، بما في ذلك المستشفيات، وطرح فكرة مستشفى عائم هو مساهمة في إيجاد بدائل لتدمير المستشفيات، وليس من بين الحلول الإنسانية كما يروج أصحاب الفكرة".