إنها أيام مختلفة لأهالي قطاع غزة اختفت فيها الملامح المألوفة للعادات والطقوس التي كانت فيها وجبة الغذاء الرئيسية تتميّز بوجود لحوم ودجاج، لكنها شبه جافة حالياً، وتتوفر فيها بالكاد أصناف قليلة، مع استمرار الحرب. تقول سوسن أبو سمعان لـ"العربي الجديد": "أعد وجبات عادية بخلاف عادتنا في تحضير مأكولات شهية ووضع أطباق تتضمن اللحوم أو الدجاج على مائدة الوجبة الأساسية".
تتابع: "تختلف حالياً كل طقوس موائدنا بسبب الحرب، وأصبحنا نأكل فقط لسد رمقنا حتى من دون أن نشعر بجوع أمام صور الشهداء والجرحى والبيوت المدمرة التي نشاهدها، والأحياء والمناطق الكاملة التي أصبحت تشبه مدن أشباح. وأنا أعدّ سندويشات لأطفالي الصغار لمحاولة توفير باقي الطعام أطول وقت ممكن، فقد نصل إلى وقت أخطر من الحالي".
وتتحدث عن أن بعض الأسواق تعرضت للقصف، وسقط فيها شهداء، ما يجعل الذهاب إليها مغامرة ومخاطرة، مع استمرار انهمار القذائف والصواريخ في كل مكان.
وجبات بقوليات
وتوضح أم حسن أبو شنب من مدينة غزة، وهي أم لتسعة أبناء، أنها تحاول توفير طعام الغذاء، الوجبة الرئيسية خلال اليوم، بأدنى المقومات المتوفرة مع بداية انتهاء المونة داخل منزلها المهدد بالقصف مثل باقي منازل قطاع غزة.
وتضيف: "حاولنا منذ اللحظات الأولى للحرب الذهاب إلى الأسواق والتسوّق، ثم أتلف الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي غالبية ما توفر لدينا، علماً أن المحلات أغلقت أبوابها بعد قصف عدد من الأسواق. وحالياً نسعى إلى تقليص عدد الوجبات من أجل إبقاء الطعام أطول فترة، والحفاظ على صحة أبنائنا خاصة الأطفال الذين زادت شهيتهم للأكل بفعل الخوف والقلق اللذين يلازمان عيشهم في ظروف سياسية وأمنية خطرة، ومشاهدتهم صور القتل والدمار التي أثرّت في نفسياتهم".
وتذكر أنها تحاول عمل أي شيء من بقوليات توفر كميات طعام أكبر، مثل العدس المجروش التي تشكل وجبة دسمة تفي الحاجة وتسد الرمق وتشبع الأطفال، وأيضاً المعكرونة التي اعتمدتها في شكل كبير بسبب سعرها الرخيص، وتوفرها حتى الآن".
وتؤكد أن "لا إمكانية لتوفير ثلاث وجبات حالياً لأن الوضع غير طبيعي وغير اعتيادي، ووجبة واحدة تكفي، ونحاول أن نقسمها على يومين أحياناً لذا حالنا سيئة ونخشى من الآتي. نسأل أين أصحاب الضمائر الحيّة مما يجري في غزة، أين حقوق الإنسان، وأين العالم من الجرائم البشعة والقصف والدمار؟".
سندويشات زعتر ودقة
أيضاً، تقول أم أحمد بارود من مخيم النصيرات وسط القطاع، وهي أم لستة أبناء: "أحاول توفير الوجبات بأقل الإمكانات كي تكفينا المونة أكبر وقت خصوصاً لا أفق لانتهاء الحرب علينا".
تضيف: "الوضع قاسٍ للغاية مع قطع الكهرباء وإمدادات الغاز المنزلي الذي يعتبر أساس البيت، ونخشى انقطاعه بالكامل.
وتوضح أيضاً أن محتويات السندويشات التي تعدها لأبنائها الصغار "تتضمن ما يتوفر من زعتر ودقة، وأي شي آخر حتى انتهاء الحرب التي أعادتنا إلى أيام حربي 2008 و2014. وقد جمعنا حواضر من زيت زيتون وأجبان ومعلبات لكنها أصبحت بالكاد متوفرة حالياً في ظل الطلب الكبير عليها من المواطنين".
لكن ما تخشاه أم أحمد هو انتهاء ما يتوفر لديها مع استمرار الحرب، خاصة مياه الشرب وعدم تزويد أهالي القطاع بالمقومات الأساسية للحياة.
حياة أشبه بصحراء
وعن حال العائلات التي نزحت إلى مدارس، تتحدث عطاف عياد أنها خرجت مع عائلتها من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة وسط القطاع من دون أن تأخذ شيئاً، إذ كان الهدف الأول الوصول إلى مكان أكثر أمناً بعدما هددنا الاحتلال بترك المنطقة استعداداً لهدمها".
وتؤكد أن "غالبية العائلات في غزة لا تملك أي طعام، وأن هناك خشية على حياة الأطفال والرضع خصوصاً، لذا ندعو العالم إلى التحرك فوراً لإنقاذ غزة التي تباد عن بكرة أبيها".
تضيف: "منذ اللحظة الأولى لوصولنا إلى المدرسة، كانت الكهرباء مقطوعة، ولا ماء ولا شراب. الحياة هنا أشبه بصحراء".
وتناشد عطاف وكالة الأمم المتحدة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) توفير القوت اللازم لبقاء المواطنين على قيد الحياة، وتقول: "حالنا تبكي الحجر. لا تجد عائلات كاملة ما يغيثها من مأكل ومشرب، ويتقاسم البعض ما يملك من طعام، في حين لا يجد آخرون ما يأكلونه".
وتدعو كل من يتابع شأن غزة، ومن يشاهد ما تتعرض له أن يهب لنجدتها ونصرة من تبقى فيها الذين يقفون بالكاد ويتماسكون أمام الإجرام والقتل المستمر في حقهم وعائلاتهم. وتقول: "أصبحنا نخشى ألا نجد ما يسدّ جوع أطفالنا الذين لا يستوعبون أننا لا نستطيع توفير طعام وشراب".
محاولة سدّ جوع الأطفال
تقف حليمة أحمد في زاوية مدرسة وتشعل النار بطريقة بدائية على الحطب، وتضع فوقها حلة كبيرة بداخلها شوربة عدس تغلي. وتقول حليمة لـ"العربي الجديد": "أحاول سدّ جوع الأطفال وإسكات صراخهم أمام تجاهل العالم النظر إلينا خلال هربنا من موت إلى موت من نوع وشكل آخر".
تتابع: "سبق أن صنعنا خبز الطابون على النار بعدما انقطع الخبز في المنطقة. تشبه حالنا النازحين الذين جرى تهجيرهم عام 1948، وتركوا كل ما يملكون، لكن الطعام لن يقف في طريق أملنا بانتهاء هذه الحرب منتصرين ومحررين. دبرنا بعض الأساسيات مثل مقلاة وغلاية وطنجرة لمحاولة صنع أي شيء يسد جوع أبنائنا، وأحياناً نبقى طوال اليوم على الشاي فقط إذا توفر".
وتناشد حليمة أصحاب الضمائر الحيّة إدخال مساعدات إنسانية للنازحين في المدارس الذين يفتقرون إلى الأمن والأمان والطعام والشراب، وحتى الفراش والأغطية.
طبق رئيسي ليومين
أما آمال منصور فتقول لـ"العربي الجديد": "أصبح الوضع أشبه بنكبة عام 1948، ونحن نحاول تأمين المطلوب، والتوفير بقدر ما نستطيع. أطبخ الطبق الرئيسي ليومين، وأعتمد البقوليات التي لا تتلف بسرعة، خاصة أن الكهرباء مقطوعة منذ بداية الحرب، والثلاجات متوقفة عن العمل".
تضيف: "تستخدم بعض العائلات الأرز والبرغل مع استمرار انقطاع الكهرباء، وعدم القدرة على العجن أو صنع الخبز اللازم للطعام. وبالنسبة إلى الأطفال الرضع الذين لا يتوفر حليب لهم نحاول صنع أشياء بديلة مثل تفتيت البسكويت أو طحن العدس، لكننا نخشى من أن يؤثر ذلك على صحتهم".
وتشدد على أن "غذاء غالبية العائلات أصبح غير متوفر، لكن نسأل الله أن تنتهي الحرب، وأن يتلطف بنا".
خشية من مجاعة
وتقول هناء الناعوق من مدينة دير البلح لـ"العربي الجديد": "نتقاسم الطعام مع الأهل الذين قدموا إلينا من مناطق مختلفة بحثاً عن الأمان الذي يتوفر بالكاد. نحاول تأمين ما نستطيع من طعام وشراب، في وقت أصبحنا نكتفي بمشروبات الشاي والقهوة لساعات طويلة. وقد طحنت القمح وصنعت دقة بكمية وفيرة سعياً للأمان الغذائي وتوفير أدنى الأطعمة بأي طريقة، علماً أننا أصبحنا نخشى من حدوث مجاعة في غزة بسبب انعدام الأمان الغذائي وعدم تخزين العائلات للأكل، خاصة أن الحرب باغتتنا، ولم يتوقع أحد ما وصلنا إليه من قتل ودمار وتهجير".
تضيف: "حالنا مثل كل الناس الذين يجدون بالكاد لقمة طوال اليوم لسدّ جوعهم وإغلاق أفواههم التي تلهث من الخوف والذعر والرعب. ويخشى الجميع الذهاب إلى الأسواق شبه المغلقة مع استمرار قصفها وسقوط شهداء فيها".
وتتحدث عن أن "مياه الشرب مقطوعة منذ اليوم الأول للحرب، ونشرب أحياناً المياه المالحة التي أصبحت شبه شحيحة أيضاً. وكل محاولات أهالي القطاع لتوفير مياه أصبحت فاشلة، ولا نعرف إلى أين سنصل أمام هذه الظروف التي نحاول أن نتماسك فيها أمام أطفالنا وأبنائنا، وتخفيف آلامهم النفسية.
وتستمر المحاولات التي يبذلها أهالي قطاع غزة لتوفير الحدّ الأدنى من الطعام، في وقت يبقى الوضع بلا تغيير منذ اليوم الأول للحرب وحتى اللحظة، وتتتالى الأزمات الإنسانية وانعدام المواد الأساسية والأمان.