لم يعد التعليم المهني في تركيا يستنزف ميزانية التعليم في البلاد، بل يمول نفسه بنفسه من دخول التلاميذ وهم على مقاعد الدراسة إلى ميدان العمل عبر اتفاقيات وشراكات مع الورش والمصانع في البلاد، وما في ذلك من فائدة لمختلف الأطراف، لا سيما التلاميذ الذين يتلقون أجوراً مقابل تدربهم على المهنة التي اختاروها وما ينجزون فيه من ابتكارات ومساهمات تطويرية. وبعدما كان التلاميذ يدخلون إلى التعليم المهني مرغمين بحكم تدني علاماتهم المدرسية في التعليم الأكاديمي، أصبحوا يقبلون عليه برغبتهم، خصوصاً أنّه يخفف عن الأهل نفقات كبيرة.
في هذا الإطار، يقول التلميذ سميح كيليج، لـ"العربي الجديد": "دخلت إلى التعليم المهني من دون إجبار على ذلك، إذ كان معدلي في الصف الثامن الأساسي، يخولني الدخول إلى مرحلة الثانوية العامة، لكنّ الفرع التقني في التعليم المهني، أقرب إلى الدراسة الجامعية التخصصية، كما يمنح التعليم المهني رواتب شهرية للتلاميذ تتراوح بين 500 ليرة (70 دولاراً أميركياً) و900 (127 دولاراً)، بحسب الاختصاص". يدرس كيليج تصميم المفروشات، علماً أنّها هوايته منذ الصغر: "اليوم، بعد التدريب العملي أتطلع لتأسيس شركة، لأنّ تركيا رائدة في هذه الصناعة، وربما أتابع تعليمي عبر الجامعة، فهي متاحة لنا بعد تخرجنا من الشهادة المهنية المعادلة للثانوية العامة، لكن شريطة اجتياز امتحان في مواد علمية أكاديمية أولاً".
من جهته، يقول المعلم المهني، في "ثانوية السلطان أحمد للتعليم المهني" طه مارتين، إنّ الإقبال على هذا النوع من التعليم زاد في تركيا خلال السنوات الأخيرة، نظراً للدعم الحكومي وسرعة انخراط التلاميذ في سوق العمل، إذ إنّ التلميذ يمكن أن يصبح مؤهلاً للعمل بالكامل بعد تخرجه في عمر 17 عاماً لا أكثر (سنّ العمل القانوني في تركيا 15 عاماً)، ما يعني توفير سنوات بالمقارنة مع التلميذ في المدارس الأكاديمية، الذي سيضطر في حال الرغبة في تعلم مهنة عن طريق الجامعة، بعد الثانوية العامة، لانتظار التخرج الجامعي. وحول المواد التي تدرّس، يضيف مارتين، لـ"العربي الجديد" أنّ المواد الأكاديمية هي نفسها، من كيمياء، ورياضيات، واجتماعيات، ولغات، لكن هناك حصص عملية للاختصاص المهني، تشمل زيارة الورش الصناعية المتنوعة، ومنشآت المواد الأولية.
بدورها، تشير بيانات وزارة التربية والتعليم، إلى ارتفاع دخل الثانويات المهنية التابعة للوزارة بنسبة 20 في المائة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي 2020، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019، إذ بلغت الأرباح 230 مليون ليرة تركية (32 مليوناً و400 ألف دولار). وتواصل وزارة التربية والتعليم زيادة الطاقة الإنتاجية للثانويات المهنية لتساهم في زيادة المهارات العملية لتلاميذها.
من جهته، قال وزير التربية والتعليم، ضياء سلجوق، إنّ تعزيز دورة التعليم والإنتاج والتوظيف كانت له الأولوية في النهوض بالتعليم المهني خلال العامين الماضيين: "اتخذنا خطوة مهمة في هذا السياق، بزيادة الطاقة الإنتاجية للمدارس الثانوية المهنية في نطاق الصندوق المتجدد، ولاحظنا زيادة الدخل الناتج من المنتجات المصنوعة (في المدارس المهنية) في عام 2019 بنسبة 40 في المائة مقارنة بعام 2018".
وحول أثر عام كورونا على التعليم المهني، أضاف سلجوق: "تسبب وباء كورونا بتوقف التعليم في المدارس، ما أثر سلباً في إنتاج ثانوياتنا المهنية، لذلك غيرنا منتجاتنا وركزنا على إنتاج ما تتطلبه هذه الفترة، مثل الكمامات والمآزر الطبية وأجهزة التنفس الاصطناعي والمعقمات وغيرها، ما ساهم في زيادة الإنتاج خلال الأشهر الثمانية الأولى من 2020". تابع أنّ جميع الولايات التركية ساهمت في هذا الإنتاج المهني الضخم، وتحقق أكبر قدر من الإنتاج في ولايات إسطنبول وأنقرة وإزمير".
وبحديث "العربي الجديد" مع معلم تصميم الألواح الصفّية الذكية، أرسين باموكجو، يؤكد أنّ "كوادر التعليم المهني أهم روافد الصناعة والنهضة التركية، فسنوياً يدخل سوق العمل آلاف الخريجين المؤهلين والمتخصصين، وهم يقبلون بشروط عمل أسهل، لذلك تجد الإقبال عليهم أكثر، سواء من أصحاب الورش والمنشآت الصناعية، أو من مراكز البحث والدراسات، عدا عن العمل الذي توفره الوزارة للمدارس المهنية، قبل تخرج التلاميذ، بهدف تمكينهم من التدرب العملي وتحقيق الدخل في الوقت نفسه".
يتابع أنّ المدارس المهنية تولت العام الماضي صيانة وإصلاح الألواح الصفّية الذكية الموزعة في المدارس التركية، بهدف تطوير قدرات تلاميذ المدارس المهنية وزيادة أرباحها، وذلك في إطار مشروع "الفاتح" الذي يندرج ضمن مساعي الوزارة لتطوير أداء المدارس المهنية وزيادة إمكاناتها بهدف تحسين أداء تلاميذها، وتأهيلهم لمستقبل أفضل.
ويلفت باموكجو إلى أنّ توفر الرعاية للتلاميذ، وتوفر مراكز البحث، بالتوازي مع التدريبات العملية، يؤديان بهم إلى الابتكار والتطوير، فوزارة التربية والتعليم، تجاوزت العام الماضي هدفها المحدد في إنتاج مدارس التعليم المهني 100 براءة اختراع خلال العام الدراسي 2019- 2020، حين تمكنت من الوصول إلى إجمالي 188 براءة اختراع في ذلك العام الدراسي، بنماذج مفيدة وتصميمات وعلامات تجارية. ويقول إنّ التلاميذ يتلقون دعماً وتشجيعاً، لا سيما من رئيس مكتب براءات الاختراع والماركات التجارية التركية، حبيب أسان، متوقعاً أن تزيد براءات الاختراع هذا العام إلى نحو 250 تصميماً جديداً.
كذلك، قال نائب وزير التربية والتعليم، محمود أوزر، إنّ الوزارة فعّلت الطاقة الإنتاجية للمدارس الثانوية المهنية منذ بدأ تفشي وباء كورونا، فقدمت دعماً للبنية التحتية للبحث والتطوير في الولايات التي جرى اختيارها للإنتاج، الذي يتعاون فيه المعلمون والتلاميذ. ولفت إلى تمكن تلك المدارس من تصنيع آلة تعمل بالموجات فوق الصوتية، لإنتاج الكمامات الطبية. وتزيد القدرة الإنتاجية لهذه بمعدل ثلاثة أضعاف عن غيرها. كذلك، ذكر أنّ دراسات البحث والتطوير المتعلقة بإنتاج أجهزة تنفس اصطناعي تواصلت في هاتاي وإسطنبول، وأثمرت عن إنتاج أول جهاز تنفس اصطناعي تركي، من صنع المدارس المهنية، وذلك في ولاية هاتاي.