تبدو الخريطة السياسية السويدية شديدة الخصوصية إذا ما قورنت بأخواتها في دول الشمال الأوروبي، التي تشمل بالإضافة إلى السويد كلاً من فنلندا والنرويج والدنمارك وأيسلندا. صحيح أنّ الحركة اليمينية التي توصف بـ"النازية الجديدة" تعمل تحت مسمّى "جبهة مقاومة الشمال" لاستهداف المواطنين المتحدّرين من أصول إثنية مغايرة وتصنيفهم "أجانب" يتوجّب ترحيلهم، علماً أنّهم يشكّلون في المتوسّط نحو 23 في المائة من مجموع سكان السويد المقدّر عددهم في إحصاءات 2020 بنحو 10.3 ملايين نسمة، إلا أنّ بعض هؤلاء يخطون طريقهم في المجتمع نحو مناصب تعكس التعددية الثقافية والإثنية التي يعرفها البلد في العقود الأخيرة.
وقد أظهر سقوط حكومة يسار الوسط بزعامة ستيفان لوفين، يوم الاثنين 21 يونيو/ حزيران، من خلال حجب الثقة على خلفيّة مسألة داخلية تتعلق بسياسات الإسكان، إلى أيّ مدى يمكن لأبناء لاجئين حضروا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي أن يمثّلوا حالة اندماج تختلف عن اليمين المتطرّف وسطحية اللون والأصل والمعتقد والاسم، مثل ما تفعل الجارة الدنمارك، التي تنغمس أكثر في خطاب إثني يستند فيه معسكرا يسار الوسط (الاشتراكي الديمقراطي) الحاكم والمعارضة اليمينية المتشددة إلى خطاب "التجانس" و"الانصهار"، أكثر من الاندماج الذي ظلّ لعقود مثار نقاش عبر وسائل الإعلام ومنبر البرلمان من دون جدوى حقيقية لإنتاج حالة قريبة من الحالة السويدية.
من لاجئة أفريقية إلى زعيمة الليبراليين
لسنوات، ظلت استوكهولم عنواناً أوروبياً لـ"التصحيح السياسي". ففي مجتمع أوروبي شمالي هيمنت عليه، في الأدب والفنون، أشكال من تعبيرات عنصرية تتعلق بأصحاب البشرة السوداء، وجدت السويد نفسها أمام حالة مراجعة شبه شاملة لرواسب كثيرة في السياق، بما فيها أدب الأطفال. وذلك خصوصاً في أعمال الأديبة السويدية أستريد ليندغرين (1907-2002)، وأشهر كتاباتها للأطفال "بيبّي ذات الجورب الطويل"، بالإضافة إلى قائمة طويلة من المراجعات في شتّى العلوم السويدية لإبعاد كلّ ما من شأنه ترسيخ العنصرية والنظرة الفوقية تجاه غير البيض.
وتلك المراجعة المستمرّة حتى يومنا كانت لمصلحة نيامكو آنا سابوني، ابنة لاجئين من أفريقيا. هي وُلدت في مارس/ آذار من عام 1969 في بوروندي لوالد من جمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) معارض في المنفى من يسار الوسط ووالدة مسلمة. وقد وصلت إلى السويد في عام 1981 لاجئةً في الثانية عشرة من عمرها مع أسرتها، وتابعت تعليمها في مدارسها وجامعاتها، وتدرّجت في النشاط الحزبي والعمل السياسي إلى أن انتُخبت في البرلمان السويدي (ريكسداغ) عن حزب الشعب الليبرالي في عام 2002. وباشرت عملها في مكاتب وزارة الدمج والمساواة لتصبح الوزيرة قبل أعوام قليلة. وقد نافست نيامكو، وهي أمّ لولدَين، على منصب قيادة الحزب، فأصبحت وجهاً سياسياً تشير إليه الصحافة والإعلام المحليَّين والأوروبيَّين. وهي اليوم زعيمة حزب سياسي مرموق في الخريطة السياسية السويدية، يعمل على توحيد خدمة المجتمع في الوسط. وهي مفاوضة بارعة وسياسية براغماتية بحسب ما يصفها السويديون، علماً أنّها درست القانون في جامعة "أوبسالا" وسياسة الهجرة في جامعة "اسكتسلونا" ونظم الاتصالات في كلية "برغس" للاتصالات في استوكهولم. وانخرطت منذ طفولتها في مسائل المساواة وتطوّعت من أجل مجتمع أكثر انفتاحاً وتسامحاً مع المواطنين، من دون الأخذ بعين الاعتبار لون والجنس والمعتقد.
وملفّ سابوني الشخصي في البرلمان السويدي حافل بإنجازات موثّقة لامرأة في مجتمع لم يكن ينظر إلى السود في الثقافة والفنون، حتى ثمانينيات القرن الماضي، سوى النظرة النمطية المنتشرة منذ زمن العبودية. وقد قلب وصولها إلى منصب رئاسة حزب سويدي في عام 2019 رأساً على عقب الخطاب في المجتمع. فللمرّة الأولى في تاريخ البلاد صار تعبير "أفرو-سويدي" (على طريقة أفرو-أميركان في الولايات المتحدة الأميركية) يُستخدم لوصف الاتجاه التعددي الآخذ بالتشكل في مجتمع شديد الافتخار بماضي أجداده من الفايكنغ، وبثقافة شمالية ظلّت منيعة حتى على الديانة المسيحية لأكثر من تسعة قرون، وعند جارتها الدنمارك (المنافس التاريخي الشديد مع حروب طاحنة ومكلفة) لأكثر من 10 قرون.
وقدّمت سابوني نصائح وأفكاراً كثيرة لمجتمعات الهجرة واللجوء في السويد منذ انخراطها في الحياة الحزبية، فالاندماج وإظهار الاهتمام بيوميات البلد الجديد من خلال التحصيل العلمي والتطوّع والعمل والنشاط الاجتماعي كفيلان بتغيير النظرة النمطية. صحيح أنّ أقوى حركات التطرّف، خصوصاً النازية-الفاشية الجديدة الاسكندنافية، تتّخذ من السويد مقرّاً لها، تحديداً في صفوف جماعة عنفية تسمّي نفسها "جبهة مقاومة الشمال"، لكنّ ذلك لم يمنع سابوني من اجتذاب جيل سويدي من مختلف الأصول، نظراً إلى أنّها عُدّت نموذجاً يحتذى به للوصول إلى أعلى المناصب في دولة القانون والمواطنة، وإن لم يولد المرء على أراضي مملكة السويد. وقد أتى ذلك على مدى سنوات ظهورها الإعلامي والبرلماني، وأخيراً من خلال زعامة حزب سويدي تأسّس قبل أن يبصر والداها النور.
ولم تتقوقع سابوني على نفسها بعدما صارت زعيمة الحزب الليبرالي، بل غرّدت خارج السرب رافضة إقصاء حزب "ديمقراطيو السويد" الشعبوي في أقصى اليمين. وقد وضعت كلّ ثقلها وراهنت بمستقبلها السياسي حين قرّرت خوض معركة في صفوف حزبها لفتح بوابة التعاون السياسي مع ذلك الحزب، على الرغم من أنّه يعارض الليبرالية ويُعَدّ الحزب الثالث في البرلمان لجهة النسبة. فالأحزاب الأخرى قرّرت بعد انتخابات عام 2018 عدم منح "ديمقراطيو السويد" أيّ نفوذ أو تأثير في الحياة السياسية. وقد ثبّتت موقفها أخيراً لجهة ضرورة عدم عزل ذلك الحزب الشعبوي، إذ إنّ التعاون يقلّل من تطرّف الحزب وجمهوره، وهو ما تبنّاه حزبها منفرداً دون بقية الطبقة السياسية.
من إيرانية لاجئة إلى زعيمة حزب اليسار
وجه نسائي لاجئ آخر أبرزته سجالات الأسبوع الثاني من يونيو/ حزيران الجاري في استوكهولم. فالشابة نوشي (ميهرنوش) دادغوستار ساهمت في إسقاط حكومة يسار الوسط (الاشتراكي الديمقراطي) بزعامة النقابي السابق ستيفان لوفين، على خلفية قضية تتعلق بشأن سويدي داخلي حفاظاً على حقّ الناس في استمرار الحصول على مساكن في متناولهم، بدلاً من خصخصة القطاع وفرض إيجارات محدّدة من السوق، علماً أنّها اليوم زعيمة حزب "اليسار". وكانت دادغوستار قد وُلدت في مخيّم لجوء سويدي في عام 1985 لوالدَين لاجئَين من إيران، لتكبر في مناطق سكنية يغلب فيها مهاجرون ولاجئون منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، في جنوبي البلاد لا سيّما هيسنغن وغوتيبرغ ونورشوبينغ. وكبرت دادغوستار وسط أجواء سياسية بحكم نشاط والدَيها المعارضَين لنظام الحكم الإيراني، علماً أنّ والدها برويز دادغوستار مصمّم إنارة ووالدتها ميترا سيفاند ممرضة. وقد ترعرعت كما غيرها من الجيل الثاني من أبناء المهاجرين سعياً وراء تحصيل علمي لإثبات هويتهم ومواطنتهم. فاختارت دراسة المحاماة في جامعة "استوكهولم" قبل أن تنتقل إلى جامعة "ساوث هامبتون" البريطانية لاستكمال دراسة القانون.
وانخرطت دادغوستار مبكراً في النشاط السياسي في صفوف شبيبة الحزب اليساري، وانتُخبت عضو مجلس بلدي في بوتكيرا، إحدى ضواحي العاصمة استوكهولم. ومنذ عام 2012، بدأت تلفت الانتباه بنشاطها المجتمعي الخاص بالسكن ومنع خصخصة القطاع في بلدية آلبي، إحدى ضواحي استوكهولم التي تضمّ نحو ثلاثة آلاف شقة، من خلال حركة احتجاج اجتماعي تأسست تحت عنوان "آلبي ليست للبيع". وقد نجحت حركتها في جمع تواقيع كافية لوقف الخصخصة. وبعد عامَين من نشاطها، انتُخبت الشابة على قوائم اليسار في البرلمان عن مدينة غوتيبرغ (جنوب) في عام 2014، وصارت عضو لجنة الشؤون المدنية والمتحدثة الرسمية باسم حزبها لقضايا الإسكان حتى عام 2018.
وكان وزير الإسكان السابق بيتر إريكسون قد اختار دادغوستار في عام 2017 لترؤس لجنة بحثية خاصة حول مواصلة تأمين المساكن الشعبية بسرعة للمواطنين الباحثين عن سكن. وفي عام 2018، قدّمت خلاصة البحث الذي ساهم في عدم تفاقم أزمة السكن في السويد، من خلال اللجنة الحكومية الأولى التي ترأسها للمرّة الأولى شخصية نسوية يسارية من أصول لاجئة. وفي العام نفسه، انتخبت دادغوستار زعيمة حزبها بالإنابة، وقد أدّى كذلك انتخابها في برلمان استوكهولم إلى استمرارها في العمل التشريعي وترؤس لجنة "التأمين الاجتماعي" في البرلمان، ومتحدثة رسمية باسمه عن الشؤون النسوية والاجتماعية.
ونشاط دادغوستار في قضايا المجتمع ومراكمتها العمل في صفوف معسكر اليسار السويدي جعلاها صاحبة شعبية كبيرة ليس فقط في صفوف حزبها، ما جعلها المفضّلة في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2020 لزعامة الحزب اليساري. وقد استعرضت صحيفة "إكسبرسن" السويدية تاريخها المليء بنشاطات تخصّ مجتمع السويد، لتصبح المرأة الأولى من أصول غير سويدية تترأس حزباً سويدياً عريقاً.
وفي منتصف يونيو/ حزيران الجاري، وقفت دادغوستار الثلاثينية، ومن خلفها حزبها، متصدية لرئيس الحكومة لوفين في اتفاقه مع حزب "الوسط" على سياسات إسكان رأتها مضرّة بالشعب. ولم تأبه هذه السياسية اليسارية في معارضة حكومة يسار الوسط لكلّ ما قيل عن أنّها تقترب في موقف حزبها من يمين الوسط، من اليمين الشعبوي في حزب "ديمقراطيو السويد"، حين قررت سحب الثقة البرلمانية من حكومة لوفين، فجرى إسقاطها بأغلبية أصوات حزبها وأصوات معسكر يمين ويمين الوسط في البرلمان. وذلك بعدما حددت مهلة زمنية لتراجع الحكومة عما سمّي "اتفاق يناير" في عام 2019، لكسب أصوات الوسط لمصلحة الاشتراكي الديمقراطي.
في المجمل، فإنّ التحوّلات التي طرأت على المجتمع السويدي في خلال العقود الأخيرة باتت تعكس حقيقة التنوّع الذي شهده هذا البلد الاسكندنافي في تقبّله أن يكون الوزراء والسياسيون والمشرّعون من أصول إثنية غير أوروبية. وبقدر ما ينفتح المجتمع على الطاقات والقدرات بقدر ما يسعى الجيل الثاني (ليس فقط مهاجرو ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في سوق العمل الأوروبي، بل حتى مجتمعات اللجوء، ومن بينهم أسماء عربية كثيرة وأخرى من دول الجنوب) إلى الانخراط بدلاً من الركون على الهامش والمراقبة بصمت لنقاشات مجتمعية وسياسية حول مئات الآلاف ممن يرفدون مجتمعات الغربة بحاجات مستقبلية، وهو ما يشكّل حالة سويدية ربّما تصبح محفّزة لغيرها، على الرغم من أنّ المشوار يبدو طويلاً في دول الجوار كالدنمارك التي تعيش مخاضاً عسيراً في فهم تعددية السويد.
فنخبة كوبنهاغن الأكثر يمينية ومحافظة تستمر منذ 20 عاماً في انتقادها سياسات استوكهولم التنقيحية في مجالات اجتماعية وأدبية وسياسية خاصة بـ"الغرباء"، مثل ما يُطلق عليهم في كوبنهاغن ولو بعد مرور 60 عاماً على الهجرة الأولى لليد العاملة، فيما يسود خطاب سويدي أكثر تجذراً عن "المواطنين الجدد" على الرغم من معسكر يميني متطرف في البلد، فالأخير لم يمنع بروز حالات تنجح في تبوّء أعلى المناصب في المجتمع.