تكره الجدة اللبنانية تيريز صغابي أن تقضي وقتها من دون عمل. واليوم، كما في الأمس، تحيك قبعات من الصوف لتوزيعها على الأطفال الفقراء، بعدما وجدت في الصوف تعويضاً عن حرمانها من التعليم
تحيك تيريز صغابي التي تتحدر من قرية كفردلاقوس في قضاء زغرتا، شمال لبنان، أكثر من مائتي قبّعة من الصوف للأطفال الأكثر فقراً، لتُوزّع عليهم خلال الأعياد. تقول إنّها تفعل ذلك علّها تفرح قلوب الأطفال الذين يتمنّون اقتناء قبعات من دون إمكانات لذلك. لا شعارات كبيرة أو شروحات طويلة للعمل الخيريّ الذي اختارت القيام به. تقول إنها تحب أن تضحّي بعملها، وتبقي نفسها منشغلة من دون أن تزعج أحداً. كل شيء فيها ومن حولها بسيط جداً. تجلس على طرف كنبة زهرية، وترتدي سترة سوداء تظهر تحتها ياقة كنزة بيضاء تلبسها اتقاء للبرد. الأسود على الأبيض الذي يخلق انعكاساً في ألوان ملابسها لا يجد سبيلاً له إلى شعرها الذي أصبح أبيض بالكامل.
لدى سؤالها عن عمرها، تجيب بسرعة: "لا يمكنني أن أفصح عن عمري هكذا". ثم تضحك بخجل تأكيداً منها أنها كانت تمزح فحسب. تتولّى إحدى بناتها الإجابة بالنيابة عنها لأن تيريز، المعروفة أيضاً بأمّ سايد، تنسى مرّات بعض الأشياء: "قرابة التسعين عاماً".
على الرغم من أنّها تحيك الصوف بفرح، إلا أنّ قصتها مع هذه الحرفة لم تكن فرحة على الإطلاق. عندما كانت تبلغ من العمر نحو عشر سنوات، رفض والدها أن ترتاد بناته المدرسة وأن يتعلّمن القراءة والكتابة. بالنسبة إليه، كان العلم ضرورة للنساء في حال اخترن أن يصبحن راهبات. وأي شيء عدا ذلك كان، برأيه، لا يتطلّب منهنّ لا القراءة ولا الكتابة. وبعدما نجحت في إقناع والدها بإرسالها إلى المدرسة، عاد وعدل عن رأيه بعد يومين أو ثلاثة. تقول أم سايد إنها أمضت أياماً بعد ذلك بالبكاء والحزن لكنها وجدت عزاء لها في حياكة الصوف. تلخّص هذا الحادث الذي سبب قهراً كبيراً ببضع كلمات بسيطة: "أنا انقهرت على حالي بسبب القلم".
يسهل على من يقابل هذه السيدة التسعينية أن يتلمّس قهرها هذا على نفسها، فهي تعيد تلاوة حادثة رفض والدها إرسالها إلى المدرسة مراراً وتكراراً، كأنه الجواب الوحيد عندها مهما اختلفت الأسئلة.
هكذا إذاً، تعلّمت تيريز حياكة الصوف واضطرت أيضاً إلى تعلّم غزل الصوف على ما يسمى بـ"المغزال" لأن شراء خيطان الصوف لم يكن ممكناً دائماً. تقول أم سايد باعتزاز إنها صنعت قبّعات وشالات وكنزات لأولاد الضيعة كلها وللكبار أيضاً. لكنها سرعان ما تعود للحديث الأهمّ بالنسبة إليها: "لكنّني أردت أنّ أتعلّم وأقرأ لكي يتنسى لي مطالعة كتب الصلاة وكتب سِيَر القدّيسين". لم تمنعها هذه الحادثة من الصلاة، فهي تعلّق قلادة دينية تتدّلى من عنقها، وتضع خلفها صورة للسيدة العذراء، وتشاهد الاحتفالات الدينية على شاشة التلفزيون طوال النهار خلال حياكتها الصوف. تصنع تيريز قبّعة واحدة على الأقلّ في اليوم. وفي بعض الأحيان، تختم نهارها بصناعة قبّعتين. يأتي صهرها، زوج إحدى بناتها، لها بالصوف وهي تحيك القبّعات من كل الأحجام لكي تتوفّر للصغار وللكبار على حدّ سواء. كلها باللون الأخضر، الأحمر والأبيض لكي تتناسب مع أجواء عيد الميلاد. باشرت تيريز العمل منذ نحو أربعة أو خمسة أشهر، وزادتها مشاهد اللبنانيين المشرّدين نتيجة انفجار مرفأ بيروت زخماً وعزيمة. ومع اقتراب موسم الأعياد والبرد الذي يرافقها، ستوزّع هذه القبّعات على المحتاجين في مناطق لبنانية مختلفة.
تقول: "لا يمكنني أن أتوقّف عن العمل. فأنا لا أُطيق البطالة ولا البلادة وأحب أن أشغل نفسي على الدوام بشيء مفيد". تضيف: "بما أنني لا أجيد القراءة لأشغل نفسي بها، أحيك الصوف". لا تنفكّ تعود إلى الموضوع نفسه الذي لا يفارق بالها: "الستّ المتعلّمة تُفتح لها كل الأبواب". مع ذلك، كانت تيريز تفتح بنفسها أبواباً ونوافذ على الجميع إذ يبدو من حديثها ومن أحاديث بناتها اللواتي يساعدنها في بعض الأحيان في ملء بعض الثغرات الي تشوب ذكرياتها أن فعل الخير والعمل الاجتماعي ليست جديداً ولا مستجداً عليها. تقول إنّها تحب الناس كثيراً وتحبّ التفاعل مع الجميع. وتذكر إحدى بناتها كيف كانت أمها تحيك الصوف لكلّ أبناء وبنات الضيعة، وكيف كانت تحضّر الأكل للمعزّين في كل مرّة تفقد الضيعة أحد أبنائها، وكيف كانت ترسل بناتها لمساعدة النساء اللواتي يعانين من مرض ما في أعمال المنزل.
وتذكر أيضاً كيف أصيبت إحدى قريبات والدتها بمرض السرطان وعيّن لها ثلاثون جلسة علاج على مدى شهر في بيروت، وكانت قريبتها هذه لا تملك سيّارة. تقول: "جمعت أمّي أفراد العائلة والمقرّبين ممن يملكون سيارات ونظمت لها ثلاثين رحلة رافقتها هي في كل واحدة منها". مع تقدّمها بالعمر، ما زالت تحافظ على حبّها للناس وانهماكها الدائم في همومهم من دون أن تؤثر السنوات عليها إذ استطاعت أن تؤمن الدفء لمن يحتاجه وهي جالسة على طرف الكنبة نفسها. بهذه الطريقة، ومن دون تعليم أو قراءة، تمكّنت تيريز من أن تكون الاستثناء للقاعدة التي تؤمن هي بها فاتحة لنفسها أبواباً كثيرة وقلوباً أكثر.