حتى بعد بريكست... أوروبا تنقذ بريطانيا من نفسها بإلغاء ترحيل اللاجئين إلى رواندا

15 يونيو 2022
لم تقلع طائرة الترحيل من على أراضي المملكة المتحدة (فودي كزيمشيتي/ Getty)
+ الخط -

لم تقلع طائرة الـ"بوينع 767" مساء أمس الثلاثاء كما كان مقرّراً لها. كانت تقف ساكنة في مطار عسكري في ويلتشاير جنوب غربي المملكة المتحدة. هدير محرّكاتها الآتي من بعيد رتيب وكئيب. صحيفة "ذا إندبندنت" البريطانية كانت تنقل المشهد على الهواء مباشرة عبر كاميرا يبدو واضحاً أنّها مثبّتة في الخفاء، مختبئة بين العشب خلف أسوار المطار، تسترق النظر إلى الطائرة في بلد تحوّل بين ليلة وضحاها من بلد الديمقراطية والحريات والشفافية إلى بلد الخوف والقلق وخرق القوانين وغياب العدالة. أعين كثيرين كانت مسمّرة أمام شاشة الهاتف أو الكومبيوتر تحدّق في الطائرة التي تظهر مقدّمتها بشكل أوضح من باقي جسمها الطويل والممشوق كأنّه يصل لندن بالعاصمة الرواندية كيغالي برّاً، حتى قبل أن تقلع الرحلة. نعرف أنّ اللاجئين الثمانية كانوا ربّما محتجزين في داخلها، وأنّهم للمرّة الأولى في حياتهم يركبون الطائرة على الأرجح، هم الهاربون من بلدانهم البائسة ركضاً وبحراً وزحفاً وتسلّلاً وكلّ الأفعال الأخرى التي تصنّفها القوانين بـ"غير النظامية"، فقط ليحظوا بفرصة حياة جديدة. لم يتجاوزوا الثلاثين من عمرهم وبعضهم لم يركب طائرة قبل الآن، وليست هذه الطائرة كغيرها من الطائرات.

مدهش فعلاً أن يغطّي الصحافي من العاصمة البريطانية لندن خبر ترحيل طالبي لجوء إلى بلد أفريقي تاريخه في انتهاك حقوق الإنسان حافل. لا يتكرّر هذا الحدث كثيراً في التاريخ. أعادتنا الأسابيع القليلة الماضية إلى البلدان التي قُدّر لنا أن ننشأ فيها ونكافح في تدريب أنفسنا على الديمقراطية وحرية التعبير حتى وإن لم نتعلّمها ولم نمارسها إلا في الجلسات الضيّقة، خلف الجدران. مدهش أيضاً أن تجبر الأحداث الأخيرة عشرات المحامين على ترك أشغالهم الروتينية في قضايا سهلة عموماً ولا تتطلب آليات استثنائية، لينكبّوا على قضايا مصيرية بالنسبة إلى أكثر من 100 طالب لجوء وصلوا إلى شواطئ المملكة بعد بداية العام الجاري.

لم تقلع الطائرة والرحلة ألغيت إلى حين. لم تقل الحكومة البريطانية إنّها ألغيت، كي تفسد فرحة كثيرين ممّن لم تغمض لهم عين في خلال الأيام الماضية وهم يكافحون في حرب تفتقر إلى الإنصاف. حكومة بأكملها ضدّ محامين متطوّعين، محامين "مهمّين" كما وصفهم رئيس الوزراء بوريس جونسون قبل أيام قائلاً: "سوف نستعين بأفضل المحامين لنربح معركتنا في المحكمة العليا" ضدّ جمعيات خيرية، في عنصرية وفوقية ضدّ طالبي لجوء يائسين لا حيلة لهم في الدنيا. لكنّ الصحافة البريطانية فضّلت فعل الإلغاء بعد أيام من تصدّر خبر رحلة "العار"، كما وصفها رئيس أساقفة كانتربيري، عناوين الصفحات الأولى لمعظمها.

الصورة
مصورون صحافيون يتابعون طائرة ترحيل اللاجئين إلى روندا من مطار في بريطانيا (فودي كزيمشيتي/ Getty)
مصوّرون صحافيون يوثّقون عملية الترحيل التي لم تتمّ (فودي كزيمشيتي/ Getty)

لم تتأخّر وزيرة الداخلية بريتي باتيل في التعليق على الإلغاء الذي دفعتهم إليه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، معلنة في بيان صحافي عن "خيبتها العميقة لأنّ التحدّي القانوني ومطالبات اللحظة الأخيرة سوف تحول دون إقلاع الطائرة اليوم"، مضيفة أنّ فريقها بدأ الاستعداد للرحلة التالية. لا نعرف لماذا تأخّرت المحكمة الأوروبية في التدخّل حتى اللحظة الأخيرة، وعلمنا من مصادرنا الخاصة أنّ المحامين المتطوّعين في القضية لم يلجأوا إليها في الأسابيع الماضية.

ومهما كانت الأسباب التي دفعتها إلى التدخّل قبل لحظات فقط من الإقلاع، لا يمكن أن ننكر أنّ تدخّلها أتى البارحة خيالياً كما يحدث في النهايات السعيدة للأفلام. تلك النهايات التي تدمع أعيننا أمامها في بعض الأحيان، مع إدراكنا الكامل أنّها تنتمي إلى الفانتازيا وأنّها مثيرة للسخرية من شدّة خفّتها وافتقارها إلى المنطق والواقعية. البارحة أيضاً، دمعت أعين كثيرة واختلطت مشاعر الإرهاق واليأس بالأمل والفرح، وكذلك الامتنان. والامتنان ليس صفة بديهية لدى البريطانيين المهذّبين جداً والودودين عموماً، كما هو في بلداننا. وليس لأنّ البريطانيين جاحدون، بل لأنّهم ولدوا في بلد ديمقراطي يحكمه القانون وحيث ينعم المواطنون بحقوق مصانة، ليس لأنّ المسؤولين عن حقوقهم كرماء بل لأنّهم ملزمون بذلك تحت سقف القانون والمسؤوليات.

حكومة جونسون غيّرت المعادلة، ودفعت مئات البريطانيين إلى التغريد البارحة واليوم عن امتنانهم العميق للمحامين المتطوّعين أولاً، وثانياً للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تدخلت بداية قبل موعد الإقلاع بثلاث ساعات وألغت ترحيل لاجئ عراقي، ثمّ بعد ساعة لاجئَين آخرَين، وقبل لحظات من الإقلاع ثلاثة آخرين، فلم يتبقَّ سوى لاجئ إيراني وحيد. ومع أنّ وزيرة الخارجية ليز تروس صرّحت صباح البارحة بكلّ ثقة بأنّ الطائرة سوف تقلع حتى لو كان على متنها شخص واحد فقط لأنّها "مسألة مبدأ"، إلا أنّها لم تقلع ولا نعرف السبب. ثمّة تخمينات متعلّقة بالكلفة التي زعمت الحكومة أنّها سبب من أسباب خطّتها لدعم الاقتصاد الوطني، إذ إنّ تكاليف طائرة البارحة بلغت ما يقارب 500 ألف جنيه إسترليني (نحو 605 آلاف دولار أميركي)، ولن يكون من المنطقي أن تقلع بكلفتها هذه مع لاجئ واحد فقط. الخبر الأهم مساء البارحة كان إلغاء الرحلة. أمّا اليوم، فالخبر الأهم والأصعب هو أنّ المعركة بدأت الآن وأنّ تحديات كثيرة ينتظرها اللاجئون في الحصول على الاستشارة القانونية، خصوصاً أنّ محامين متطوّعين كثيرين في هذه القضايا أُنهكوا وبعضهم تخلّى عن رغبته في الاستمرار.

ويبدو أن تدخّل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان كان مفاجئاً بالنسبة إلى الجميع، ما عدا جونسون الذي لوّح البارحة بانسحاب المملكة المتحدة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على خلفية الاحتجاجات على خطته. وسبق لجونسون أن تغزّل بالمحكمة الأوروبية قبل وصوله إلى "داونينغ ستريت"، مشيداً بالوثيقة التي أُعدّت في عهد الرجل المفضّل لديه ونستون تشرشل قائلاً: "احتفظوا بالوثيقة الأوروبية.. لكن اخرجوا من الاتحاد الأوروبي"، فيما كانت وزيرة الداخلية آنذاك تيريزا ماي تفضّل العكس؛ الانسحاب من الاتفاقية والبقاء في الاتحاد الأوروبي.

وقد تأسست المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عام 1959 للحكم في القضايا الفردية أو الحكومية في حال انتهاك الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وتُعَدّ أحكامها ملزِمة للدول الأعضاء في مجلس أوروبا التي صادقت على الاتفاقية. وفي حين يمثّل الاتحاد الأوروبي الشراكة الاقتصادية والسياسية، يمثّل المجلس الأوروبي القيم الحقوقية ومنظمة حقوق الإنسان. وقد طُوّرت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في خضمّ الحرب العالمية الثانية لضمان عدم السماح للحكومات مرّة أخرى بنزع الصفة الإنسانية وانتهاك حقوق المواطنين والإفلات من العقاب. يُذكر أنّ جيمس فاوسيت جدّ جونسون لأمّه كان رئيساً للمفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان. 

وفي حين أن "خطّة رواندا" التي تعهّدت المحكمة العليا في لندن النظر فيها ككلّ قبل نهاية شهر يوليو/ تموز المقبل، تمثّل انتهاكات قانونية "جسيمة" بحسب حقوقيين بريطانيين وأوروبيين، إلا أنّها تمثّل أيضاً الانقسامات العميقة بين الحكومة الحالية والرأي العام في المملكة المتحدة. وبيّنت الأسابيع الأخيرة أنّ الحكومة أخطأت التقدير عندما ادّعت أنّ الخطة تأتي استجابة لتطلّعات الناخبين. يُذكر أنّ الحكومة الحالية ذاع صيتها بالعناد والإصرار على "المضي قدماً" مهما كان طريقها مليئاً بالأخطاء والزلّات والانتهاكات. لا تعرف كيف تتراجع، ولا تريد أن تتراجع. سبق لجونسون أن انتهك القوانين ولم يعتذر إلا بعد أن أثبتت الشرطة خرقه للقانون. لم يستقل، بل عدّل القانون الوزاري متيحاً لأيّ وزير أن يخطئ وينتهك ثمّ يكتفي بالاعتذار. أخطأ جونسون بالخروج من الاتحاد الأوروبي مرّتَين، مرّة عندما قرّر الانسحاب ومرّة ثانية عندما لم يحترم القوانين الدولية في كيفية الخروج والانسحاب، وهو اليوم غارق في أخطائه، ما إن ينجو حتى يسقط من جديد. سوف ينجو ربّما مرّات أخرى في الأشهر المقبلة لكنّه سوف يبقى دائماً أوّل رئيس وزراء بريطاني يخرق القانون.