تتوالى فضائح الاحتكار في لبنان، ولا تتوقّف عند حدود احتكار الوقود ولقمة العيش، بل طاولت أدويةً أساسيّة، بينها أدوية أمراض مزمنة يستغيث اللبنانيّون للحصول عليها، في حين يمعن المحتكرون في إخفائها والمتاجرة بها في سوقهم السوداء.
واقعٌ حرم العديد من الأطفال وكبار السن والشباب من أدوية هم في حاجة إليها. وسط كل هذا، كانت لافتةً مبادرة بعض المواطنين من أمّهاتٍ ومحامين إلى رفع دعاوى قضائية بصفة الادّعاء الشخصي ضدّ محتكري الأدوية وكلّ من يثبت تورّطه في الملف، متلطّياً بغطاءٍ سياسي أو حماية من هنا وهناك، بعد مداهمة وزير الصحة اللبناني حمد حسن لمستودعات تخزّن أطناناً من الأدوية.
في هذا السياق، كشفت ريما طناني، وهي أمّ لولدين، أنّها في صدد تقديم دعوى قضائية ضدّ محتكري الأدوية. فالوالدة المصدومة بخبر العثور على آلاف العُلب من دواء ابنتها المفقود، لم تكن تدرك أنّ الدواء موجود على بُعد 10 دقائق فقط بالسيارة من منزلها، الكائن في بلدة زفتا قضاء النبطية (جنوب لبنان)، وأنّ الاحتكار وصل حدّ الإجرام والمتاجرة بصحّة وأرواح الكبار والصغار.
ريما قاست الأمرّين، وهي تتجوّل بحثاً عن دواء بترا، ابنة الثلاثة أعوام ونصف العام، بين صيدليّةٍ وأخرى من دون جدوى. وتقول لـ "العربي الجديد": "بعد تعذّر حصولي على الوقود، استعنتُ بدراجتي الهوائية، إذ إنّ ابنتي بترا ومنذ كانت بعمر 13 يوماً، تعاني من مرض قصور الغدة الدرقية، وهو مرض مزمن يتطلّب العلاج مدى الحياة، إذ لا تفرز الغدة الدرقية هرمون النمو. ومنذ ذلك الوقت، تتناول دواء إيوثيروكس بمعدّل حبّة كلّ يوم، قبل أن يصبح العلاج عبارة عن حبة ونصف الحبة يوميّاً". تضيف: "بداية، كنا نطحن لها الحبة، لكنّها اليوم تأخذها كاملةً، حتّى أنّها تذكّرنا بها، وتقول: أعطوني الدواء. وفي حال انقطاع الدواء ولو لأسبوعٍ واحد، تصبح بترا عرضة لنقصٍ في النمو الجسدي والعقلي، علماً أنّها اليوم ونتيجة المتابعة الحثيثة لها منذ ولادتها، هي طفلة سليمة وذكاؤها يفوق المعدل، كما طولها ونموها. لكن الخطورة تكمن في فقدان الدواء، والعلبة منه تكفي مائة يوم".
تتابع ريما: "استفزّني مشهد المداهمة، لا سيّما أنه تمّ العثور على دواء ابنتي. أنام وأصحو وأنا أفكّر بكيفيّة تأمينه، وألهث خلف علبة، وأحياناً لا أجد سوى ظرفٍ واحدٍ. ولأنّ حق أولادنا لا يجوز أن يضيع، قرّرتُ تحضير ملف ابنتي لرفع دعوى شروع بالقتل، وقد شكّلت خطوتي هذه حافزاً للعديد من الأمهات والأهالي الذين سيبادرون إلى التقدّم بدعاوى وشكاوى مماثلة، علماً أنّ مجموعة من المحامين جاهزة لمساندتنا من دون أيّ مقابل". وتلفت إلى أنّ "المداهمة كشفت كذلك احتكار أدوية أطفال لمعالجة داء الصرع. هذا إجرام حقيقي، ونحن قادرون على التغلّب عليهم. إلا أنّ مسألة توقيفهم ومصادرة أدويتهم وتركهم أو تغريمهم، لا تكفي، وكأنّنا نقول لغيرهم من المحتكرين خبّئوا أدويتكم جيداً". لذلك، فإنّ معاقبتهم وفق أحكام القانون ستكون الرادع الأكبر".
"ما ضاع حقٌ وراءه مُطالب"، يقول المحامي حسن عادل بزي، معرباً عن ثقته بالاقتصاص من المحتكرين. بزي الذي كان أول مَن تقدّم ظهر الأربعاء الماضي بادّعاءٍ شخصي بشأن هذه القضية في النيابة العامّة الاستئنافيّة في مدينة صيدا (جنوب لبنان)، يقول لـ"العربي الجديد": "سنبدأ بمساندة كلّ مَن يريد رفع شكوى ضد المحتكرين، ومكتبنا جاهز للمساعدة المجانية، سواء في كتابة الشكوى أو تقديمها أو حتى بالمرافعة فيها، بشرط أن تكون الدعوى جديّة، بمعنى أن يكون الشخص مريضاً بالفعل، محتاجاً للدواء والدواء مفقود، وأن نمضي بالدعوى حتى المرحلة الأخيرة".
ويؤكّد على "أهمية الادّعاء الشخصي، كوننا نعيش في بلدٍ تحكمه مافيا سياسية. فعندما تقتصر الدعوى على الحق العام من دون مدّعٍ شخصي، يصبح من السهل التلاعب بالنتائج والخضوع للضغط السياسي، وبالتالي نصل حكماً إلى تسوية سياسية. في حين أنّ وجود المدّعي الشخصي في الملف، يعني أنّه أصبح طرفاً في الدعوى، وبالتالي له حق مراقبة سير الدعوى والطعن في أيّ قرار يصدر خلافاً للقانون، لذلك وجودنا أساسي".
يضيف بزي: "وجود أكثر من مدّعٍ بأكثر من دعوى يسبّب إرهاقاً للمدّعى عليهم، وينذرهم بعشرات بل مئات المحاضر في المرات المقبلة، ما يكبّدهم خسائر كبيرة، يحسبون معها حساباً لأيّ فعل احتكاري". ويوضح أنّنا "نتحدّث هنا عن جرائم عديدة لهذا الفعل الاحتكاري، من بينها تعريض المواطنين للأذى وخطر الوفاة، بجرم القصد الاحتمالي للقتل، ومخالفة قانون حماية المستهلك، ومخالفة قانون الصيدلة والمسّ بالأمن الاقتصادي والصحي والاجتماعي للدولة والشعب. فالمسألة ليست مجرّد حبّة دواء، إنّما جنايات خطيرة تُرتكب، وبالتالي من الواجب محاسبة المحتكرين وفضحهم وفضح غطائهم السياسي".
بزي الذي تحتاج زوجته الثلاثينية لنفس دواء الطفلة بترا، وإلا تعاني خطر حدوث التجلّطات والوفاة، يقول: "طلبتُ ضمن الشكوى إنزال العقوبات ومصادرة كل الأدوية وتسليمها مجاناً عبر وزارة الصحة العامّة للمستوصفات والمرضى المحتاجين إليها".
وكان حسن قد قام بجولة كشف ميدانية على مستودعات أدوية وحليب أطفال في أكثر من منطقة لبنانية. وأظهرت الجولة وجود أطنان من الأدوية المخزنة في المستودعات، على الرغم أنّها مفقودة في السوق وضرورية لشتّى الأمراض، لا سيّما الأمراض المزمنة، فضلاً عن كميات كبيرة من المضادات الحيوية وحليب الأطفال.