تمثل عودة الحجاج مناسبة سعيدة في الجزائر، وتترافق مع طقوس احتفالات تتنوع باختلاف المناطق، ومن أهمها تزيين البيوت لاستقبال ما يعرف شعبياً بـ "ركب مكة".
عادت زبيدة حساني (74 سنة) المتحدرة من منطقة بوحاتم بمدينة ميلة (شرق) من زيارتها الأولى للبقاع المقدسة، والتي جاءت بعد سنوات من تكرارها التسجيل في قائمة طلبات الحج قبل أن تسعفها القرعة في عام 2019، ثم يمنعها تفشي وباء كورونا وتوقف الحج لدواعٍ صحية من تحقيق رغبتها في زيارة مكة المكرمة. تقول لـ" العربي الجديد": "أحلم طوال سنوات بزيارة بيت الله الحرام، وهو مطلب تمسكت بتنفيذه منذ وفاة زوجي، ورغم غلاء أسعار الحج وهبت له كل ما أملك من مال".
قبل أن تعود الحاجة زبيدة مع الفوج الأول من الحجاج إلى الجزائر، أنجزت أسرتها استعدادات استقبالها. يقول ابنها محمد لـ"العربي الجديد": "مثلما ذهبت أمي إلى الحج بموكب ووليمة واحتفال، ستعود لتجد المراسم الاحتفالية ذاتها، إذ يجب أن نحتفي بها من خلال التقاليد التي تهدف إلى جعلها تشعر بقيمتها الكبيرة، وأيضاً أهمية شعيرة زيارة بيت الله، ومحاولة نقل معانيها العظيمة إلى نفوس الشباب والأطفال".
يضيف: "في العادة يسبق تحضيرات استقبال حجاج بيت الله الحرام تنظيف البيوت وتزيينها، وإعداد اللوازم الخاصة بالاحتفال، وتتميز عادات الجزائريين في هذه المناسبة بتحضير ولائم تتضمن أطباقاً متنوعة تختلف بين منطقة وأخرى".
ويقول حميد لعور لـ"العربي الجديد": "توارث الجزائريون عادات عدة لدى استقبالهم ضيوف الرحمن العائدين من البقاع المقدسة تكريماً لهم ولإظهار الافتخار بإنجازهم هذا الركن العظيم من أركان الإسلام. ولا ننسى أن الحج هذه السنة وفّر فرصاً للآلاف من أجل أداء الشعائر، وذلك بعد انقطاع طويل بسبب وباء كورونا، وعادة ما يكون توديعهم بيت الله الحرام والعودة إلى الجزائر أمراً صعباً بالنسبة إليهم".
لا يفوّت المُستقبِلون، خاصة الأحفاد، فرصة أخذ صور تذكارية مع الحجاج، فيما جلب بعضهم "البرنوس (اللباس) التقليدي" الذي يلبسه الحاج أو الحاجة أثناء الاستقبال الأول بالمطار بسبب رمزيته الكبيرة في الثقافة الشعبية الجزائرية.
بارود وولائم وهدايا
في إطار العادات يتوجه الحاج ومرافقوه بعد مغادرة المطار إلى بيت العائلة، حيث يُستقبل بطلقات من البارود، وهو أمر تقليدي في مناطق جزائرية عدة يعتبر سكانها أن طلقة البارود تعني الفرح والسعادة بعودة الحاج الذي تعد له وليمة كبيرة يحضرها الأهل والأقارب والجيران.
على سبيل المثال، تجهّز في منطقة الأوراس الذبائح الخاصة بـ"الزردة"، أي عشاء الحج، على شرف العائدين من البقاع المقدسة، ومن العادات المتوارثة طهي أطباق خاصة، وإلباس الحاج الزي الأبيض للجلوس في غرفة استقبال الضيوف، أو في ساحة مزينة مخصصة للترحيب وتلقي التهاني.
يستمر هذا الاحتفال أياماً طويلة غالباً، خصوصاً أن أشخاصاً كثيرين يتعذّر عليهم تهنئة العائدين من الحج في اليوم الأول، ما يجعلهم ينفذون هذا الواجب خلال تلك الفترة. كما يستقبل البعض الحجاج بطبق "الرّْفِيس"، وهو عبارة عن خليط من عجينة التمر والعسل الذي يقدم مع اللبن عادة، أو طبق " الطَمِّينة" الذي يُصنع من سميد خشن ويخلط بالزبدة والعسل. ولدى دخول الحاج بيته يتناول هذا الطبق بصحبة مرافقيه.
من جهته، يحرص الحاج على إحضار هدايا لأهله وأقاربه، وتوزيعها على المدعوين للوليمة، وأهمها ماء زمزم الذي يقدمه للزوار، فضلاً عن مسبحة أو مسك أو زربية صلاة. يقول الحاج فريد زنداني لـ"العربي الجديد": "ماء زمزم أغلى ما يقدم للأهل والأحبة، وقد حرصت أيضاً على شراء بعض الهدايا لأحفادي الخمسة الصغار كي تتعلق قلوبهم بزيارة مكة وبالشعائر الإسلامية".
عموماً، يأخذ الاحتفال بالعائدين من البقاع المقدّسة منحىً يختلف تماماً عن الولائم التي تحضرها العائلات للتعبير عن فرحتها بالمناسبات الاجتماعية المعتادة، واللافت أن التحوّلات في المجتمع الجزائري وتغيرّ مظاهر الاحتفالات في كل المجالات، لم تبدّل العادات الخاصة بمراسم عودة الحجاج، إذ تباشر العائلات قبل أيام من العودة المرتقبة تحضير متطلبات الولائم، أو ما يسمى بـ "وعدة الحج" أو "الزردة".
بركة وطاقة متجددة
تخبر أستاذة علم الاجتماع في جامعة الجزائر، فريدة نوي، "العربي الجديد"، أن "عادات الاحتفال بالحجاج تختلف بين منطقة وأخرى، وتحمل معاني عدة، فهي ظاهرة اجتماعية محمودة تعبر عن أواصر المحبة، وتظهر تعظيم الشعائر الإسلامية، كما تزرع الغبطة والسعادة بالحج في النفوس بسبب ارتباطها بتقاليد توارثتها العائلات".
تضيف: "ينظر معظم الجزائريين بفرح كبير إلى الحج باعتباره مناسبة محببة في نفوسهم تأتي مرة كل سنة، وتصح لمن أعد العدة، في حين يعتبر البعض الحج بركة تمنح العائلات طاقة متجددة مع عودة الحجاج من أقدس وأطهر مكان في الدنيا".
وتسمى قافلة الحجاج في الجزائر تاريخياً بـ"ركب الحج" أو "مراكب الحج"، وهي عبارة عن قوافل تضم مجموعات تجهّزت للسفر إلى البقاع المقدسة مشياً على الأقدام، أو على إبل تنطلق من شمال أفريقيا مزودة بماء وطعام ولوازم مهمة مثل الخيام.
بدوره، يقول أستاذ التاريخ في جامعة باتنة (شرق) كريم منحور لـ" العربي الجديد": "اشتهرت قوافل الحج خلال القرنين الـ18 والـ19، والتي كان يرأسها شخص يتعهد بإيصال الحجاج إلى مكة، وكانت الرحلات تنفذ على مرحلتين، أولاهما براً، وتضم حجاج بلاد المغرب، مروراً بتلمسان وبجاية وقسنطينة وعنابة وتونس، إلى طرابلس وصحراء برقة، ثم الإسكندرية والقاهرة، والمرحلة الثانية كانت تتم بحراً من سواحل مصر الشرقية إلى مدينة جدّة السعودية".
ويوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجلفة، كريم سعداوي، لـ"العربي الجديد"، أن "ممارسات الأعياد الدينية تبقى من الأشكال الرمزية والطقوس الاحتفالية، والمجتمع يحافظ على تراثه الشعبي الموروث في المناسبات، خصوصاً في الحج وعيد الأضحى بما يحملان من موروث يتضح جلياً في مظاهر الفرح والابتهاج، علاوة على تقوية أواصر التواصل العائلي والتضامن الاجتماعي، وكل ذلك يزيد تماسك المجتمع، ويقوي العلاقات بين أفراده".