تسير روسيا على طريق التحوّل المجتمعي المرتبط بتحسن قدرات المهاجرين في التأقلم مع متطلبات العيش. وقد زالت بعض عقبات إجادتهم اللغة، وباتوا أكثر تفوقاً في الدراسة وتحسّن تطورهم المهني.
يواجه أبناء ملايين من مهاجري الجمهوريات السوفييتية السابقة الذين قدِموا إلى روسيا بحثاً عن الرزق، تحدي الاندماج في المدارس في ظل فوارق لغوية وثقافية ودينية مع الروس، إضافة إلى تأثر تعليمهم بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لآبائهم. وما يزيد من صعوبة اندماج أبناء هؤلاء، ولا سيما التلاميذ في المدارس، ظاهرة رهاب الأجانب السائدة في البلاد من خلال مظاهر عدة أهمها التمييز المجتمعي الذي يخضعون له، ولا سيما أولئك القادمين من بلدان آسيا الوسطى.
لكن اللافت أن هذا الأمر لا يمنع مدير نقابة "تحالف المعلمين" في مدينة سان بطرسبرغ (شمال)، دانييل كين، من التلميح إلى أن "تحسناً كبيراً طرأ على درجة اندماج أبناء المهاجرين في المجتمع، والذين بات كثر منهم أكثر تفوقاً دراسياً على زملائهم الروس". يقول كين لـ "العربي الجديد": "لا تتوافر إحصاءات دقيقة عن واقع التفوق الدراسي لأبناء المهاجرين من الجمهوريات السوفييتية السابقة، لكن يلاحظ أن فصلاً في مدرسة متوسطة المستوى بالعاصمة موسكو أو سان بطرسبرغ يضم اليوم بين تلميذ وثلاثة من أبناء المهاجرين. وقد ينقص هذا العدد في مدارس ذات مستوى تعليمي عال أو يكثر في مدارس مصنفة بأنها ضعيفة نسبياً. ويستند تصنيف هذه المدارس إلى معايير التنافس، علماً أن مستوى أبناء المهاجرين يكون أكثر ضعفاً غالباً لأسباب موضوعية، مثل مقدار إجادة اللغة الروسية، والتعلم في مدارس أضعف مستوى، وتأثير المشكلات الاجتماعية". ويلفت إلى أن نسبة أبناء المهاجرين في مدارس موسكو وسان بطرسبرغ أعلى من باقي المدن، لأنهم أكثر حضوراً في المدينتين اللتين تضمان أكبر عدد من الوظائف التي لا تتطلب مهارات تعليم كبيرة ويشغلون قسماً كبيراً منها.
وفي شأن تقييمه مدى اندماج أبناء المهاجرين في المدارس الروسية، يؤكد كين أن "درجتها عالية جداً، استناداً إلى خبرتي وتجارب عدد من زملائي في مجال التعليم". يضيف: "خلال السنوات الـ15 الماضية، أصبح المجتمع أكثر تسامحاً مع أبناء المهاجرين من منطقة آسيا الوسطى التي تشكل المصدر الرئيسي لحركة الهجرة الوافدة إلى روسيا. ويرجع ذلك جزئياً إلى نشأة الجيل الثاني واندماجه ثقافياً ولغوياً وعقلياً، وتفوقه في الدراسة بدرجة لا تقل عن الطلاب الروس. لكن ذلك لا يلغي واقع أن الوضع قد يكون أسوأ في الأقاليم الفقيرة أو المدارس ذات المستوى الثقافي المتدني، ما يجعل التلاميذ وأولياء الأمور يفتقرون إلى متطلبات التطور التعليمي المناسبة، والتغلب على الصعوبات المرتبطة بتزايد العنف والتوتر الاجتماعي الذي يخضع التعامل بين الناس لمظاهر تمييز مختلفة بينها العصبية القومية (الشوفينية) ورهاب الإسلام". ويعلّق كين على الأداء الدراسي للمهاجرين بأنه "مماثل لمستوى الأطفال الروس عموماً، رغم أنه يتعرض لعقبات أكبر حجماً بسبب مشكلات اللغة وسوء الأوضاع الاجتماعية للأسر التي تفرض عيشهم في حال الفقر وافتقارهم إلى سكن دائم. لكن في المقابل قد تخلق الظروف غير المناسبة عوامل تحفيز للمهاجرين من أجل السعي إلى النجاح والاستقرار الاجتماعي ومساعدة أولياء أمورهم وتحقيق تطلعات أخرى".
واللافت أن روسيا تشهد أحياناً حوادث يتورط بها مهاجرون وتترك صدى مجتمعياً كبيراً، ما يزيد التساؤلات حول مقدار اندماجهم وحدوده، وآخرها عراك نشب بين حوالى 200 مهاجر من قرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان في محيط محطة مترو "كوزمينكي" بموسكو في يوليو/ تموز الجاري، ما أدى إلى اعتقال حوالى مائة منهم باتوا يواجهون احتمال الترحيل من روسيا. لكن كين يقلل من حجم مشاركة أبناء الجيل الثاني من المهاجرين في هذه الحوادث وانعكاساتها على وضعهم الحالي في المجتمع، "فهذا الجيل مندمج في شكل أفضل بكثير من الجيل الأول الذي يعتبر أكثر تورطاً بمظاهر الفتنة المفتوحة والاشتباكات والجرائم الإثنية".
وفي ظل الفجوة بين عدد المواليد والوفيات في روسيا وتناقص عدد سكانها في مقابل تزايد اعتمادها على العمالة الوافدة، ثمّة مؤشرات إلى أن نسبة أبناء المهاجرين في المدارس الروسية سترتفع حتماً في السنوات المقبلة. وفي دليل على إدراك القيادة الروسية هذا الواقع الذي قد يخلق فوارق مجتمعية كبيرة، حذّر الرئيس فلاديمير بوتين في نهاية مارس/ آذار الماضي من احتمال أن تصبح المدارس متخمة بأبناء المهاجرين فقط، على غرار الوضع السائد في بعض الدول الغربية.
من جهة أخرى، لا يُخفى أن جائحة كورونا والتدابير التي اتخذت لمكافحتها على صعيد إغلاق الحدود وتعليق حركة السفر وتفاقم مشكلات القطاع الخدماتي قلّصت حركة الهجرة الوافدة إلى روسيا. وكشفت وزارة الداخلية أن عدد الأجانب الذين جرى تسجيلهم خلال الفترة الممتدة بين يناير/ كانون الثاني ومايو/ أيار الماضي تراجع بنسبة 14 في المائة وصولاً إلى حوالى 3.9 ملايين شخص، في مقابل حوالى 4.5 ملايين خلال الفترة نفسها من عام 2020. وكانت روسيا قد شددت قوانين الهجرة في 2018، بالتزامن مع أزمات واجهت اقتصادها منذ عام 2014، ما قلّص بمقدار الربع عدد الأجانب الوافدين إلى أراضيها.