في بداية فبراير/شباط الماضي، وبعد سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على أجزاء من مدينة خانيونس، اضطرت الطواقم الطبية إلى عمل مقبرة جماعية في ساحة مجمع ناصر الطبي، وتوسعت المساحة لاحقاً لدفن الأعداد الكبيرة من الشهداء، وقال العديد من النازحين الذين كانوا داخل المجمع قبيل اقتحام جيش الاحتلال له، إن الجثامين كانت تتكدس في ظل الحصار المشدد الذي فرضه الاحتلال على محيط المجمع، ومنعه مغادرة أي من الطواقم الطبية أو النازحين، وارتكابه على مدار أسبوعين متواصلين مجازر بحق المدنيين في خانيونس.
ونتيجة تلك المجازر، كانت أعداد الشهداء التي تصل إلى المجمع الطبي توضع في ثلاجات الموتى، وحين امتلأت عن آخرها، باتت الجثامين توضع في الأقسام الجانبية ويتم تغطيتها، خصوصاً في أيام الحصار الأخيرة، والتي عجزت إدارة المستشفى والنازحين فيها عن الدفن بسبب القناصة وتكرار القصف المباشر عبر طائرات الاستطلاع، كما أن العديد من الجثامين وصلت إلى المجمع من دون أن يكون لهم أقارب فيها، في ظل أن غالبية سكان خانيونس كانوا في حالة نزوح جماعي.
واعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي عبر الإعلام العبري بأنه جلب إلى الداخل المحتل خلال الشهر الماضي، وعلى فترات، نحو 400 جثماناً استولى عليها أثناء اقتحامه لمجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس، وبعد ارتكابه مجازر في حق من كانوا بداخل المستشفى من النازحين والمرضى، وأنه تبين أنها لا تضم جثامين أي من الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم المقاومة الفلسطينية.
وصباح الخميس 7 مارس/آذار الماضي، أعاد الاحتلال 47 جثماناً عبر معبر كرم أبو سالم جنوب شرقي مدينة رفح، مغطاة بأكياس زرقاء، وظن كثيرون ممن كانوا نازحين إلى مجمع ناصر الطبي، وغادروه إلى مدينة رفح بعد تهديد الاحتلال بإطلاق النار عليهم، أن من بينها جثامين ذويهم المسروقة، لكنهم صدموا من عدم إمكانية التعرف على هوية الجثامين، إذ لاحظوا تشوه عدد منها، والبعض الأخر متحلل، في حين يعرف عدد كبير منهم طبيعة الإصابات التي أدت إلى استشهاد ذويهم، لكن غالبية الجثامين المعادة كان يظهر عليها آثار التشريح.
أعاد الاحتلال 47 جثماناً عبر معبر كرم أبو سالم جنوب شرقي مدينة رفح
كان أحمد الخطاب أحد من ينتظرون وصول الجثامين، إذ استشهد شقيقه ونقل جثمانه الى مجمع ناصر الطبي في 13 فبراير/شباط الماضي، خلال اشتداد القصف الإسرائيلي على أحياء مدينة خانيونس، وقد نقل الجثمان إلى المجمع الطبي بصعوبة، ثم اضطر إلى النزوح جنوباً مع عائلته بعد أن منحهم جيش الاحتلال مهلة للمغادرة، فترك جثمان شقيقه وتوجه إلى مدينة رفح.
يقول الخطاب لـ"العربي الجديد": "توجهت إلى مستشفى أبو يوسف النجار عندما علمت بإعادة الاحتلال جثامين شهداء، لكني لم أجد شقيقي فؤاد (34 سنة) من بينهم. كان قد أصيب في الظهر خلال قصف صاروخي، ما أدى إلى استشهاده، لكن الجثامين التي رأيتها مليئة بالتشوهات، وبعضها متحلل، وكانت على بعضها ديدان، وليس من بينهم جثمان شقيقي، وقد عدت مكسور الخاطر لأني كنت أريد تكريمه ودفنه".
يضيف الخطاب: "لحق بي كثيرون عندما ذهبت إلى المستشفى، وكان الغالبية ممن غادروا خانيونس خلال الشهر الماضي، فالجميع يريدون الاطمئنان، واثنان منهم فقط تعرفوا على جثامين ذويهم من خلال التعرف على الوجوه، وقالوا إن هناك أعضاء مسروقة من أجساد ذويهم، وتوجهنا إلى المدفن الجماعي ونحن ننظر لحالنا، فقد جئنا لنودع ذوينا، فوجدنا أنفسنا نودع شهداء أخرين في أوضاع إنسانية مذلة بسبب دفن الشهداء في قبور جماعية".
نزح أحمد الأستاذ (35 سنة) من منطقة السطر الغربي في مدينة خانيونس إلى مدينة رفح، ويقول إنه حين علم بوصول جثامين، سارع إلى المستشفى لمحاولة التعرف على جثمان شقيقه الذي أصيب في قصف منزله، وكانت إصابته في الكتف والظهر والرأس، ما أدى إلى استشهاده، لكنه عندما بدأ تفحص الجثامين تشكك بين جثمان شهيدين يعتقد أن يكون أحدهما شقيقه محمد البالغ 26 سنة، والذي كان شعره أشقر ويمتلك أنفاً كبيراً.
يقول الأستاذ لـ"العربي الجديد": "من شدة الصدمة التي أصابتني بسبب الحالة التي كانت عليها الجثامين، لم أستطع تمييز شقيقي، فالجثامين مقطعة، وشبه متحللة، وقد احتسبته عند الله شهيداً، وأعتقد أنه كان من بين الجثامين التي دفنت في المقبرة الجماعية. أفكر بعد الحرب أن أحاول عمل ضريح كبير لشهداء هذه المقبرة الجماعية، وكتابة أسماء الشهداء عليه لتكريمهم، وكي تكون لهم ذكرى لا تنسى".
تشير بيانات المكتب الإعلامي الحكومي إلى نبش الاحتلال نحو 1800 قبر
ويؤكد أحد الممرضين الذين كانوا في المجمع طوال أيام الحصار الإسرائيلي، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه كون عدد من زملائه معتقلين لدى الاحتلال، أنه تمت سرقة الجثامين، وأن جنود الاحتلال قاموا بحفر المقبرة الجماعية التي أقيمت في ساحة المجمع للحصول على أكبر عدد من الجثامين التي دفنت فيها.
ويقول الممرض الفلسطيني لـ"العربي الجديد": "دخل جنود الاحتلال إلى الأقسام، وكانوا يقتادون الطواقم الطبية إلى الساحة، ويقومون بالتحقيق معهم، وجرى اعتقال عدد كبير، ونقلوا إلى مراكز احتجاز، ولا يزال بعضهم معتقلاً، ثم توجهت قوات كبيرة مع آليات عسكرية إلى منطقة الثلاجات، وكنا نسمع أصوات مختلطة، ولاحقاً اكتشفنا أن الكثير من الأجهزة الطبية تم نقلها، وإحداث خراب كبير في الأقسام، وفي السجلات، كما جرى التنكيل بالطواقم الطبية، والعبث بغرفة الثلاجات".
يضيف: "خلال أيام الحصار الأخيرة، كانت الطواقم الطبية تمارس أعمالاً كثيرة، ولا فارق هنا بين الممرض والطبيب ورئيس القسم، فالجميع يمارس أكثر من مهنة، من بينها التغسيل والتكفين ونقل الجثامين. لكن الاحتلال سرق الجثامين من الثلاجات، ومن القبور التي أنشأت في داخل المجمع، وعند خروجي من المستشفى، طلبوا مني التوجه إلى مدينة رفح، وقد شاهدت الكثير من الفراغات في الأرض التي كنا خصصناها للدفن، وكان واضحاً فيها آثار النبش، خصوصاً في المقبرة الخلفية التي دفن فيها أكثر من 20 شهيداً، وفي مقبرة الوسط التي دفن فيها ما يقارب 40 شهيداً".
وقام الاحتلال الإسرائيلي بنبش الكثير من مقابر قطاع غزة، وتشير بيانات المكتب الإعلامي الحكومي إلى نبش الاحتلال نحو 1800 قبر، بعضها في مقابر رسمية، وأخرى قبور عشوائية تم الدفن فيها أثناء العدوان لتغطية الأعداد الكبيرة من الشهداء، وإن الاحتلال قام خلال تكرار نبش القبور بسرقة الجثامين، كما فعل سابقاً في مقبرة بلدة ومخيم جباليا، التي سرق بعض جثامين الشهداء منها، كما ان الاحتلال لا يزال يحتجز مئات من جثامين شهداء قطاع غزة، ومن غير المعروف عددها على وجه الدقة.
ويؤكد مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، لـ"العربي الجديد"، أن الجثامين التي سلمها الاحتلال أخيراً، كانت توجد بها تشوهات غير منطقية، وبعد فحصها من قبل الطواقم الطبية في مستشفى أبو يوسف النجار، يعتقد أن الهدف من تلك التشوهات كان سرقة أعضاء حيوية، خصوصاً أن الاحتلال كان يبحث عن مكان الجثامين حين اقتحم أقسام مجمع ناصر الطبي.
يقول الثوابتة: "امتهان كرامة جثامين الشهداء جريمة جديدة تضاف إلى سلسلة جرائم الاحتلال خلال حرب الإبادة الجماعية، وسرقة 400 جثمان من مجمع ناصر الطبي باعترافهم، هي مخالفة للقانون الدولي، لكن الأعداد المعلنة ليست حقيقية، وأعداد الجثامين المسروقة أكبر. مواقف المنظمات الدولية العاملة في قطاع غزة، مثل الصليب الأحمر تجاه الجرائم الفظيعة التي يرتكبها جيش الاحتلال مخزية، فالصليب الأحمر مطلوب منه توثيق كيفية استلام الجثث، ووصف حالتها عند الاستلام، وعليه مطالبة إسرائيل بكشف مكان سرقتها، وإذا صارت تغييرات عليها. لكنه لم يقم بأي من ذلك، وغالباً لا ينوي القيام بدوره".
ويوضح: "من خلال تقييم الجهات الصحية والفنية، تعمد الاحتلال أن تبقى هذه الجثامين عنده لفترة طويلة حتى تميل إلى الذوبان أو تقترب من التحلل، وهو ما يبين أنه كان يستغل بعض الجثامين التي يمكن نقل أعضاء بشرية منها، وإغلاق الأجساد قبل تسليمها، وهذا واضح من الآثار على الجلد في مناطق القلب والعظام والعيون وغيرها، وقد ألمح الأطباء إلى سرقة القرنيات من العيون".