فوجئت فتيات إسرائيليات كن قد ركبن الحافلة المتجهة من مدينة أسدود إلى بئر السبع، حين طلب السائق منهن الجلوس في مؤخرة الحافلة وتغطية أجسادهن لأنهن يرتدين ملابس "غير محتشمة"، على حد تعبيره. ولم يكتف السائق الذي ينتمي إلى التيار الديني الحريدي بهذا الطلب، بل أعطى الفتيات أقمشة لتغطية أجسادهن. هذه الحادثة التي وقعت الأسبوع الماضي وغطتها وسائل الإعلام الإسرائيلية على نطاق واسع، تعكس اتساع محاولات التيار الديني تكريس الفصل بين الجنسين كحقيقة ناجزة. وفي حادثة أخرى، رفض سائق حافلة كانت تنطلق من عسقلان إلى تل أبيب الرد على استفسار سيدة تبلغ من العمر 84 عاماً، عن المحطة الأقرب من المستشفى الذي تريد التوجه إليه، مشيراً إلى أن المنطلقات الدينية التي يؤمن بها لا تسمح بالحديث إلى امرأة. وأكثر الحوادث التي أثارت جدلاً في إسرائيل، هي ما تعرضت له أواخر الأسبوع الماضي الصحافية نيريا كراوس، مقدمة البرامج البارزة في قناة 13 على الطائرة التي أقلتها من تل أبيب إلى نيويورك. وكتبت كراوس على حسابها على "إكس"، أن إقلاع الطائرة تأخر ساعة كاملة لأن مجموعة من أتباع التيار الحريدي رفضت السماح لها بالجلوس بينهم في المكان المخصص لها. ووثقت كراوس أحد المضيفين على الطائرة وهو يقر لها بأنها تعرضت لمضايقات من قبل أتباع التيار الحريدي كونها امرأة.
ووصل حرص التيار الحريدي على الفصل بين الجنسين إلى تشدد غير مسبوق، إذ نشر حساب الصحافي الحريدي يشاي كوهين على الإنترنت صورة للافتة علقت في أحد أحياء القدس الاستيطانية تحدد أرصفة للمشي مخصصة للرجال وأخرى للنساء.
ويبدي التيار الحريدي حساسية شديدة إزاء وجود المرأة في الفضاء العام لدرجة أن أتباعه في مدينة بني براك، الواقعة شمال تل أبيب، يصرون على تغطية وجوه النساء التي تظهر على الإعلانات التجارية كملصقات على حافلات النقل العام.
وفي القدس المحتلة، نشرت سلطة البث الإسرائيلية صوراً لشباب من التيار الحريدي وهم يتلفون إطارات إحدى الحافلات لأنها حملت إعلانات تجارية تظهر فيها صور نساء.
ولأن هذه الأحزاب باتت تحوز على ثقل ونفوذ بسبب مشاركتها في الحكومة، فإنها لم تعد تتردد في تقديم مشاريع قوانين بالغة التطرف إزاء المرأة. وقدمت الكتلة البرلمانية لحركة "يهدوت هتوراة" المشاركة في الحكومة مشروع قانون ينص على فرض عقوبة السجن مدة عام ونصف العام على كل امرأة تصل إلى منطقة حائط البراق (يطلق عليه اليهود حائط المبكى)، وهي لا ترتدي ملابس "محتشمة".
وطرح النواب الحريديم في الكنيست مشروع قانون يمنح أصحاب المصالح الاقتصادية الخاصة الحق في رفض تقديم خدمة لشخص إن كان هذا يتعارض مع قيمه ومنطلقاته الدينية. وعدت صحيفة "هآرتس" مشروع القانون مسوغاً يمنح أصحاب المصالح الاقتصادية من المتدينين الحق في رفض تقديم خدمات للنساء أو المثليين أو العرب.
وبات الخوف من التعرض لمضايقات بسبب اللباس هاجساً بالنسبة لكثير من النساء العلمانيات في إسرائيل. ونشرت الكاتبة الإسرائيلية ريمونا بآول الأسبوع الماضي مقالاً في صحيفة "هآرتس" قالت فيه إن بنتها التي تبلغ من العمر 17 عاماً استشارتها حول ما يتوجب عليها لبسه قبل صعودها إلى الحافلة، خشية أن يطلب منها السائق الجلوس في الخلف.
لكن السعي إلى تكريس الفصل بين الجنسين لا يقتصر على مبادرات أتباع التيار الديني الحريدي، بل تقدم عليه مؤسسات رسمية من منطلق "الحرص على مشاعر المتدينين".
وقبل حوالي شهرين، نظمت بلدية مدينة "روش هعاين" الواقعة شمال شرق تل أبيب حفلاً، وطلب من الرجال أن يجلسوا في المقدمة وأن تحتل النساء المقاعد الخلفية. وهذا ما أقدمت عليه أيضاً بلدية مدينة بيت شيمش الواقعة غرب القدس. ويستمد التيار الديني الحريدي وبعض المجالس البلدية في إسرائيل التشجيع من ممارسات وقرارات حكومة بنيامين نتنياهو، الواقعة تحت تأثير الأحزاب الدينية الطاغي المشاركة فيها.
وتحت ضغط الأحزاب الحريدية، خصصت الحكومة مناطق سباحة منفصلة للرجال والنساء في بعض الشواطئ، بحجة السماح لأتباع التيار الديني بالاستمتاع مع الحفاظ على أنماط حياتهم الخاصة. واتخذت وزيرة البيئة عيديت سيلمان، وهي متدينة تنتمي إلى حزب الليكود العلماني، قراراً مؤخراً بتخصيص ساعات سباحة في منابع المياه الطبيعية للرجال وأخرى للنساء. لكن قرارها لم ينفذ لأن المستشارة القضائية للحكومة غالي ميارا اشترطت أن يطبق هذا القرار بعد إصدار تشريع ينظم هذه التعليمات عن الكنيست. وبعد قرار ميارا، قدم ثلاثة نواب من حركة "يهدوت هتوراة" الحريدية المشاركة في الحكومة مشروع قانون يلزم سلطة المحميات الطبيعية بتخصيص 15 في المائة من المدة المخصصة للسباحة في المنابع الطبيعية لسباحة الرجال والنساء بشكل منفصل.
وبهدف تشجيع أتباع التيار الحريدي على الالتحاق بالمؤسسات الأكاديمية، أمرت الحكومة بعض الجامعات بتخصيص برامج تعليمية منفصلة للرجال والنساء لكي يتسنى للحريديم الالتحاق بها. لكن المظاهر التي تعكس رغبة بالمس بمكانة المرأة أصبحت إحدى الآليات التي تقدم عليها بعض النخب العلمانية اليمينية لاسترضاء التيار الحريدي والقوى السياسية التي تمثله. وأمرت وزيرة شؤون المرأة في الحكومة مايا غولان، وهي علمانية تنتمي إلى حزب الليكود، بحل "مؤسسة تمكين المرأة في المجتمع"، وهي مؤسسة حكومية شكلت من أجل تحسين مكانة المرأة.
وتجاهر الأحزاب الدينية الحريدية بموقفها السلبي إزاء المرأة، ولا تسمح هذه الأحزاب للنساء بالانضمام إليها أو أن تتولى أي دور سياسي واجتماعي. وترفض الكاتبة الإسرائيلية نوعا ليمونا مزاعم التيار الحريدي بأن حرصه على تقليص وجود المرأة في الفضاء يعود إلى الحاجة إلى "مراعاة مشاعر" أتباعه، وعدت هذا السلوك "ممارسة تعكس رغبة في التحكم بالنساء وقمعهن".
وفي مقال نشرته صحيفة "هارتس"، قالت ليمونا إن ما تشهده إسرائيل في الآونة الأخيرة هو سعي لـ"اجتثاث" المرأة من الفضاء العام. وتسأل: "لماذا لا يتم احترام مشاعر العلمانيين والليبراليين؟ لماذا يفترضون أن أتباع التيار الحريدي هم فقط من يحوز منظومة قيمية يتوجب احترامها، في حين لا يتم احترام مبادئ وقيم العلمانيين والليبراليين؟".