كانت الساعة الثانية من بعد منتصف الليل والعاصفة دانيال تضرب بقوة شمال شرقي ليبيا، عندما سمع عبد المنعم عوض الشيخ صراخاً، فقفز من سريره ليرى أنّ المياه في كلّ مكان، وأنّ أمواجاً تخلع أبواب المنزل وتُغرق كلّ شيء.
على درج مبنى منزله المدمّر في مدينة درنة، كان يجلس الشيخ، أمس الأحد، متأمّلاً الدمار، فيما آثار الصدمة ما زالت بادية على وجهه. ويروي لوكالة فرانس برس كيف نجا مع عائلته من كارثة الفيضانات التي أسفرت عن مقتل وفقدان الآلاف.
يقول الشيخ، إنّه كان في سريره عندما بدأ يسمع صراخاً من الخارج، و"خرجتُ من المنزل من دون أن أحمل معي أيّ شيء سوى نظّاراتي وهاتفي المحمول. خرجتُ ووجدتُ المياه... تُزلزل الأبواب الحديدية" للمنازل في المبنى. وقد شاهد باب منزل في المبنى وهو يُخلع بفعل تدفّق المياه.
وكان الشيخ يقطن في الطبقة الأولى مع زوجته، ولديه ابنان يسكنان مع عائلتَيهما في المبنى نفسه في طبقتَين علويّتَين. فصعد مع زوجته إلى الطبقة الرابعة. وما هي إلا دقائق، حتى بدأت المياه في الانحسار والتوجّه نحو مجرى النهر القريب، بحسب قوله.
لكنّ ذلك لم يكن نهاية الكابوس. ويتابع الشيخ أنّه بعد نحو ثلث ساعة، "صاح ابني من فوق أنّ موجة أخرى آتية وهي أكبر من الأولى، ارتفاعها يبلغ نحو 20 متراً".
يُذكر أنّ الأمطار الغزيرة التي تساقطت بكميات هائلة على مناطق في شمال شرق ليبيا في 11 سبتمبر/ أيلول الجاري، أدّت إلى انهيار سدَّين في مدينة درنة، الأمر الذي تسبّب في تدفّق المياه بقوة في مجرى نهر يكون جافاً في العادة. وجرفت المياه أجزاء من المدينة بأبنيتها وبناها التحتية وسكّانها. وتدفّقت المياه بارتفاع أمتار عدّة، الأمر الذي شُبّه بـ"تسونامي"، وقد حُطّمت الجسور التي تربط شرقي المدينة بغربيها.
نجاة بسلّم خشبي
ويخبر الشيخ أنّه صعد مع عائلته بعد ذلك إلى الطبقة الخامسة، وانتقلوا جميعاً إلى سطح منزل جاره وهو ابن عمّه. ويكمل: "وضعنا سلّماً خشبياً وانتقلنا إلى السطح الثاني، وجلسنا هناك إلى ما بعد ساعات الفجر، عندما جاء إلينا شبّان وساعدونا". ويشير إلى أنّ أحد هؤلاء المتطوّعين "فقد عائلته بالكامل".
وحال الشيخ تشبه حال كثيرين في كلّ أنحاء درنة، عادوا بعد فرارهم الى أماكن قريبة، لتفقّد الأضرار الجسيمة التي لحقت بمنازلهم. ومن بين هؤلاء الليبي محمد الزاوي البالغ من العمر 25 عاماً، الذي يروي أنّ "أغراضنا وأثاثنا كلّها كانت تتحرّك" على سطح المياه.
ويقول الزاوي إنّ الموجة الأولى لم تتجاوز مستوى الرصيف ولم تدخل إلى المنازل، لكنّ الثانية جاءت "بقوّة" ولامست الطبقتين الثانية والثالثة، مضيفاً أنّ الجرف "جلب معه سيارات وأغراضاً وأشخاصاً داخل سيارات، ثمّ صبّ كلّ شيء في البحر".
ويلفت الزاوي إلى أنّه "قبل ذلك بيوم واحد، تلقّينا تحذيرات تفيد بتوقّع أمطار قوية، وبالتالي وجوب ملازمة المنازل. وهذا كلّ شيء".
ويجلس الزاوي في الشارع مقابل منزله، متأملاً مشهد الدمار، مصدوماً. هو نجا مع عائلته المؤلّفة من تسعة أفراد بعدما تمكّنوا من الصعود إلى سطح منزلهم المؤلّف من طبقتَين، علماً أنّه لا يمكن الخروج منه إلا من الطبقة الأولى. وبعدما انخفض مستوى المياه، نزلوا إلى الشارع.
بالقرب من المنزل، يقول الزاوي إنّه شاهد "ما بين 25 و30 جثّة"، وراح يبحث عن أغطية ليسترها، قبل أن يحاول تفقّد الأحياء في الحيّ وما إذا كانوا في حاجة إلى مساعدة.
"رأيتُ الموت"
وفي الحيّ نفسه، يقطن اللبناني محمد عبد الحفيظ البالغ من العمر 50 عاماً، منذ عقود. يقول بدوره: "رأيتُ الموت لكن للعمر بقيّة".
ويروي عبد الحفيظ أنّه كان نائماً عندما شعر بأنّ "الدنيا اهتزّت"، فاعتقد أنّ هزة أرضية تحصل. ودعا شقيقته ووالده إلى النزول إلى الشارع، لكنّه عندما خرج إلى شرفة منزله في الطبقة الثالثة رأى المياه قد وصلت إليها.
فصعدوا إلى الطبقات العلوية، وجلسوا ساعة ونصف الساعة في انتظار انخفاض مستوى المياه.
وبين جدران متشقّقة، يحمل الشيخ جلابيته بيدٍ ويتّكئ على جدار متضرّر، ويتقدّم بين الحطام متوجّهاً إلى إحدى غرف المنزل الذي تحطّمت نوافذه وسقطت بعض جدرانه.
وتستحيل رؤية أرضية منزل الشيخ التي تغطّيها طبقة سميكة من التراب الجاف بارتفاعات متفاوتة.
أمام نافذة مخلّعة، لم يبقَ منها إلا هيكلها الإسمنتي، يشير الشيخ بيده إلى مشهد الدمار في الخارج، ثمّ يقول "المساحة هذه من بيتي حتى الوادي، كانت تقوم فيها ثلاثة أو أربعة مبان... الآن لا يوجد شيء... الأرض تراب وكأنّه لم تكن هناك يوماً مبانٍ فيها".
(فرانس برس)