ما زالت مجتمعات كثيرة لا تتقبّل عمل المرأة في مجال يُعَدّ "خشناً" عليها. لكنّ الأوضاع المعيشية المتردية في لبنان تدفع شابات إلى تعلّم مهن رجّالية.
في أحد البرامج الهادفة إلى تأكيد المساواة بين المرأة والرجل، تحاول جمعية "عمل تنموي بلا حدود - نبع" التي تنشط في مدينة صيدا جنوبي لبنان، تمكين النساء والفتيات من العمل في مهن حرّة. وتقول المتخصصة في علم النفس إيمان بسيوني في الجمعية إنّ "هدفنا من خلال برنامج تمكين الشابات هو التوعية بحق المساواة وبالعنف الاجتماعي والزواج المبكر والجنس والجندر والصحة الإنجابية". تضيف بسيوني أنّه "في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، نحن نعمل على تمكين الفتيات من العمل في مهن تؤهلهنّ للعيش بكرامة. وقد أتت فكرة تمكين الفتيات انطلاقاً من أنّ المرأة والفتاة لا تملكان حقوقاً كافية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتربوية". وتتابع بسيوني: "ونحن كنساء، من حقّنا المطالبة بحقوقنا، وأقلّ شيء هو العيش بكرامة"، موضحة أنّه "في بعض المجتمعات، يرفض الأهل متابعة بناتهنّ تعليمهنّ أو عملهنّ، وعندما يبلغنَ يتمّ تزويجهنّ لأنّ آخرتها للمطبخ وبيتها، علماً أنّ فتيات كثيرات ما بين 14 و15 عاماً صرنَ أمّهات". وتؤكد بسيوني: "لذا نحرص على توعية الأهل أوّلاً ثمّ الفتيات بحقوقهنّ، ونمكّنهنّ من العمل في مهن تفيدهنّ ودمجهنّ في المجتمع الذي يرفض في العادة عمل المرأة في مثل هذه المهن تحديداً".
وتشير بسيوني إلى أنّ "المشروع مموّل من صندوق الأمم المتحدة للسكّان بالتعاون مع جمعية نبع، ونحن نعمل على تدريب ثلاثين شابة في مجالَي المساعدة الصحية والعناية بالبشرة، وذلك بحسب السوق. ونعمل كذلك على تمكينهنّ نفسياً واجتماعياً واقتصادياً. وثمّة شابات يعملنَ الآن لأنّ أوضاعهنّ الاقتصادية صعبة جداً أو هنّ غير متعلّمات. وفي السياق نفسه، تواصلنا مع أصحاب محلات في المدينة الصناعية في مدينة صيدا، إذ ثمّة شابات يرغبنَ في خوض في مجالات كهرباء السيارات والدهان وتصليح الإطارات". وتكمل بسيوني أنّ "نحو عشر شابات في مدينة صيدا يتدرّبنَ على مهن حرّة".
نور مصيني واحدة من هؤلاء الشابات تقيم في منطقة حارة صيدا بعدما تركت سورية وتحديداً حلب قبل تسعة أعوام. تقول نور البالغة من العمر 17 عاماً: "لقد جئت مع عائلتي إلى لبنان وتابعت تعليمي حتى أنهيت المرحلة المتوسطة. بعد ذلك لازمت البيت لأنّه بحسب عاداتنا لا يُسمح للفتاة بمتابعة تعليمها"، مشيرة إلى أنّ "هنا، أظنّ أنّ الحال أفضل من سورية. لو كنّا هناك، لما سمح لي أهلي بإنهاء تعليمي المتوسط حتى". تضيف نور: "بعد مدّة من البقاء في البيت، أتيح لي لاحقاً الالتحاق بدورة لتصفيف الشعر. وفي وقت لاحق، قررت الالتحاق بدورة لتعلّم حدادة السيارات. كان هدفي من ذلك الإثبات أنّ لا فرق بين الفتاة والفتى في العمل. لكنّ أهلي اعترضوا في بداية الأمر، ثمّ أقنعتهم المدرّبة المسؤولة عن البرنامج. وبالفعل بدأت تدريبي". وتتابع نور أنّ "العمل بهذه المهنة علّمني أشياء كثيرة، أهمّها جعلني أكتشف السيارة وأثبت لنفسي وللآخرين بأنّ الفتاة تستطيع العمل كما الفتى، علماً أنّ كثيرين لا يتقبّلون الفكرة. لكنّني أردت توجيه رسالة وهي أنّ الفتاة والفتى متساويان في كلّ شيء".
من جهتها، تتدرّب رهف محمد المحمد على مهنة كهرباء السيارات. هي كذلك تقيم في صيدا منذ 12 عاماً، وهي من دمشق. تقول رهف البالغة من العمر 17 عاماً: "لم أتابع تحصيلي العلمي، إذ توقّفت في الصف السابع الأساسي. ثمّ التحقت بدورة تدريبية في المحاسبة نظمتها الحركة الاجتماعية، وبعدها بدورات في الهندسة الزراعية مع يونيسف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) وكنت أتقاضى أجراً لقاء عملي. لكنّني توقّفت عن ذلك بسبب الأوضاع. فقد كنّا خمس فتيات نعمل في أحد المشاتل، فاختار صاحبه واحدة منّا فقط بسبب الأوضاع الاقتصادية. بالتالي بقيت بلا عمل، قبل أن ألتحق بدورة لتعلّم مهنة كهرباء السيارات". وعن سبب اختيارها هذا، توضح رهف أنّ "نظرة المجتمع معقّدة تجاه الفتاة، فأحببت أن أوصل فكرة إلى الناس مفادها أنّني أستطيع العمل كما الشاب وليس من فرق بيني وبينه، على الرغم من أنّ أهلي عارضوا الأمر في البداية. لكنّهم تقبّلوا الفكرة بعد إصراري عليها". وتتابع رهف أنّ "العمل في المدينة الصناعية في صيدا أمر مستغرب بالتأكيد، فمن غير المألوف أن تعمل فتاة في مثل هذه المهن، لكن مع الوقت ومع خوض النساء هذا المجال، قد تتغيّر فكرة المجتمع ونظرته. وإن بدأت فتاة بالعمل، فسوف تتشجّع أخريات". وتأمل رهف أن "يكون لي في المستقبل محلّي الخاص، فأستقبل فيه الزبائن".
أمّا نور محمد الزين وهي لبنانية تبلغ من العمر 18 عاماً وتقيم في منطقة حارة صيدا، فتقول: "لقد أنهيت في هذا العام المرحلة الثانوية من تعليمي، وأنا أتحضّر للدخول إلى الجامعة للتخصّص في مجال هندسة الديكور. لكنّني أرغب بالإضافة إلى تحصيلي الأكاديمي أن أتعلّم مهنة مختلفة تفيدني في المستقبل". تضيف نور "وأنا أرغب في تغيير فكرة المجتمع التي تقول إنّ المرأة للمطبخ مهما حصّلت من تعليمها. فهذا كلام ذكوري، وأنا أريد الإثبات أنّ هذه الفكرة خاطئة، لأنّ المرأة تستطيع العمل في مهن عديدة كما الرجل". وتوضح نور: "أنا هنا أتدرّب على مهنة دهان السيارات، وأهلي بالتأكيد دعموا قراري هذا لأنّهم يرغبون في أن أحقّق ما أريده، ليس فقط لجهة تعليمي الأكاديمي إنّما كذلك في تعلّمي أيّ شيء أريده". وتتابع نور: "وليس من الضروري أن أعمل في هذه المهنة مستقبلاً، لكنّني أستطيع ممارستها كهواية أو أساعد أحدهم في مجال العمل هذا على سبيل المثال".
جنان الظابط شابة لبنانية أخرى من مدينة صيدا وتقيم في منطقة مجدليون شرقي المدينة، تبلغ من العمر 20 عاماً وهي تحمل شهادة في المحاسبة والمعلوماتية من معهد صيدا الفني. تقول جنان: "بعدما أنهيت دراستي، بحثت عن عمل في مجال تخصصي في أماكن عديدة، لكنّني لم أوفّق. ففي كلّ مرّة كنت أعثر على فرصة عمل في غير تخصصي، من دون أن تناسبني. وبعد ذلك، قرّرت الالتحاق بدورة متخصّصة في تصليح إطارات السيارات، علماً أنّني كنت قبل ذلك قد التحقت بدورة دهان وتوريق جدران، وأخرى في مجال تصفيف الشعر والماكياج (التزيين النسائي)". وتتابع جنان أنّ "الناس جميعاً يستغربون عندما يرونني أتدرّب على هذه المهنة وأرغب في العمل فيها. لكنّني أريد أن أثبت لهم أنّ الشابة تستطيع العمل في هذه المهنة كما الشاب تماماً، ولا فرق بينهما في العمل". وإذ تؤكد رغبتها في احتراف هذه المهنة، لا تخفي أنّ أهلها لم يتقبّلوا الفكرة في البداية بسهولة، "لكنّني وبعد معاناة كبيرة استطعت إقناعهم. وأنا اليوم أريد القول لكلّ شابة: لا مستحيل في هذه الحياة أمام رغبتك في العمل وتستطيعين القيام بكل ما ترغبين فيه".