لا يغيب الطب الشعبي البديل والتداوي بالأعشاب عن ممارسات الجزائريين وتعاطيهم مع أمراض مختلفة. وثمة أسباب كثيرة لهذه الحال، بينها أن الطب البديل متجذر في ثقافتهم، وأن بعض الأعشاب أظهرت فاعلية في علاج أمراض، وأيضاً دوافع مادية تضاف إلى تزايد عدد المتخصصين في هذا النوع من العلاج.
خلال رحلتها للعلاج من آلام مزمنة في المعدة، طرقت أسماء (35 عاماً) أبواب عشرات من الأطباء، ثم اختارت تجربة وصفات مدروسة للطب البديل، وتناول أعشاب توفرها محلات متخصصة بالعطارة. وتكشف في حديثها لـ"العربي الجديد" أنها عانت لفترة طويلة من آلام نتجت من التهابات حادة في المعدة، وجرّبت وصفات طبية عدة جلبتها من صيدليات، و"التهمت"، بحسب تعبيرها، كميات من أدوية المسكنات التي كان مفعولها مؤقّتاً. وتقول: "لم أفكر في خيار الطب التقليدي واستخدام الأعشاب، لكن إحدى قريباتي نصحتني بتجربة وصفات حققت لها نتائج صحية طيبة، وهو ما حصل من خلال طبيب متخصص في طب الأعشاب. وقد خفت آلامي وتخليت عن الأدوية مؤقتاً". وتمثل أسماء عيّنة من عشرات الجزائريين الذين ضاقت بهم السّبل، وتوجّهوا إلى باعة الأعشاب لتخفيف أوجاعهم، علماً أن المجال أصبح قبلة لمتخرجّين من كليات الطب والبيولوجيا والصيدلة والدراسات المتخصصة في النباتات الطبية، ودخله البعض على سبيل الاكتشاف قبل أن تكسبهم التجربة خبرات سنين.
أهمية المعرفة المتخصصة
قبل عقدين، تخرجت سعيدة وازن (52 عاماً) من كلية الصيدلة في جامعة الجزائر، وتخصصت في طب الأعشاب ثم فتحت محلاً في العاصمة الجزائرية لبيع الأعشاب الطبية ووصف الأدوية لمرضى يقصدونها. تخبر "العربي الجديد" أنها كانت مولعة بالنباتات والأعشاب، ودرست خصائصها في شكل دقيق، وعلاقة كل منها بالعلاجات والصحة، خاصة أن أعشاباً كثيرة تشكل مكوّنات خاصة لأدوية.
وتقول لـ"العربي الجديد": "يجب امتلاك معرفة متخصصة بمواصفات الأعشاب من أجل وصفها لمرضى وتحقيق الإفادة الصحية المنشودة منها. وبخلاف ذلك قد تصبح الوصفات المقدمة بلا فائدة، لكن البعض يقدمون خلطات أعشاب من دون أي معرفة أو دراسة، والمجال يستقطب كثيرين في الجزائر، وهناك خلط بين الطبيب المتخصص في العلاج بالأعشاب، وباعة الوصفات الذين يعتمدون غالباً على معارف تقليدية ليست علمية بالضرورة، ويبيعونها إلى فئات كثيرة في المجتمع خاصة الفقراء الذين يقصدونهم لمحاولة معالجة أعراض مثل الصداع وآلام المعدة والقولون العصبي وغيرها، بثمن قليل نسبياً مقارنة بأسعار الأدوية في الصيدليات، وهو ما يوفره العطارون تحديداً".
إلى ذلك، يبيع تجار مختلف أنواع الأعشاب التي يصفها أطباء لمرضى ضمن محلات توجد في الأسواق، وتفوح من داخلها روائح الأعشاب والخلطات الطبيعية للنباتات، وتعرض رفوفها أكياساً وعلباً تتضمن أعشاباً، مع وضع علامات تشير إلى فوائدها، ما يسمح بانتقاء الزبائن ما يريدونه من دون الحاجة لتدخل البائع في عملية التوجيه والإرشاد ووصف الخصائص، أو حتى لأخذ مشورتهم.
وفي حي ضيّق قرب ساحة التوت وسط مدينة البليدة القريبة من العاصمة الجزائرية، تتواجد محلات لبيع الأعشاب الطبية يديرها أشخاص توارثوا تجارة بيع الأعشاب أباً عن جدّ، ويتفنّنون في الوصفات التي يتناولها المرضى، وأحدهم فريد بونوة الذي يقول لـ"العربي الجديد": "أمارس تجارة بيع الأعشاب منذ أكثر من عشر سنوات، بعدما تعلمتها على أيدي أفراد من عائلتي الذين قدموا من ولاية بسكرة (جنوب) إلى العاصمة الجزائرية، وأطلعوني على معلومات عن أعشاب معروفة مثل حبوب الرشاد والحلبة التي تستخدم في تسكين آلام المعدة والقولون العصبي ومعالجة ارتفاع مستوى الغازات، وكذلك النعناع والكركم والقرنفل الذي يستعمل في تسكين آلام الأسنان، وأعشاب أخرى يعرفها أشخاص كثيرون من خلال الثقافة الشعبية التي توارثها الجزائريون باعتبارها وسائل علاج في البيوت".
شيوخ الكار
وما يدفع قسماً من الجزائريين أيضاً إلى العلاج بالأعشاب وجوده تقليدياً في ثقافتهم من خلال المحلات في الأسواق الشعبية في المدن والتي ظهرت في زمن الاستعمار الفرنسي، والسنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال. وتعج هذه الأسواق ببائعي الأعشاب الطبية، وبعضهم من الشيوخ الذين تخصصوا في وصف العلاجات لمرضى، استناداً إلى خبرتهم بالأعشاب ومعرفة بخصوصياتها وفوائدها، وبالاعتماد على التجربة التي اكتسبوها في وقت لم تكن الظروف فيه تسمح لهم بالحصول على دراسات علمية. وهم كانوا المصدر الأبرز لمعالجة الأمراض، خاصة في القرى والأرياف التي لم يكن يصل إليها أطباء، ولم تكن تتوفر خدمات صحية فيها.
في السياق، يؤكد الباحث في مجال الأنثروبولوجيا بجامعة البليدة وليد أوشان، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "التداوي بالأعشاب يرتبط بالتراث الثقافي الاجتماعي والموروث الثقافي والبيئة. والتوجّه للعلاج الطبيعي على علاقة أيضاً بتصنيف بعض المرضى الطب الحديث بأنه فاشل في علاج بعض الأمراض. ويعني ذلك أن الطب الحديث ترك ثغرة استغلها الطب البديل للظهور مجدداً على الساحة من خلال محلات بيع الأعشاب الطبية، واعتماد الجزائريين على طب الأعشاب بسبب المؤثرات التقليدية المتوارثة في العائلات تفرض استجابتهم لها في العلاج".
ولا بد من الإشارة إلى أن العلاج بالأعشاب كانت له مبرراته الاجتماعية والثقافية والمادية في العقود الأولى للاستقلال في الجزائر، لكن الحال تختلف اليوم في ظل وجود تغطية صحية ومراكز طب في كل البلدات والقرى في الجزائر، والتي توفر علاجات مجانية أيضاً. ويعني ذلك أن الأسباب قد ترتبط بتطور علم استخدام الأعشاب في العلاج، ونشوء تخصصات طبية، وبحث المرضى عن أدوية طبيعية خالية من المكونات الكيميائية التي تتسبب عادة في أعراض جانبية، أو لغايات مادية تتعلق بعدم القدرة على شراء الأدوية المطلوبة.
وخلال أزمة وباء كورونا في الجزائر، توجه كثيرون في الجزائر إلى محلات بيع الأعشاب الطبية، للتخفيف من أعراض الوباء نفسه.
مخاطر
ويعترف أطباء في الجزائر بتنامي الطبّ الشعبي جنباً إلى جنب مع الطب الحديث، لكنهم يحذرون من استغلال هذا الطب الثقافة الشعبية للأسر، ودفعها إلى تلقي علاجات غير آمنة صحياً. ويحذر بعضهم من مخاطر تناول الخلطات الشعبية والأعشاب الطبيعية على الصحة، واعتبارها بديلاً للأدوية التي تؤخذ بمقدار ووصفات طبية، موضحين أنّ عدداً من المستشفيات سبق أن استقبلت حالات لمرضى تناولوا أعشاباً زادت من تدهور وضعهم الصحي. ودقّ الأطباء ناقوس الخطر من أعشاب تؤخذ بطرق عشوائية، قد تكون لها تأثيرات وخيمة على الصحة وتؤدي إلى الوفاة، وتسويق محلات خلطات دون ترخيص من وزارة التجارة، أو دون وصفات تكشف مكوناتها أو فوائدها العلاجية. ولفتوا إلى ممارسات العلاجية "لا تستوفي طرق التخزين الصحية، ما يستدعي تدخل كل من وزارة التجارة والصحة على حدّ سواء من أجل حملة منع تداول مثل هذه الأعشاب في السوق الجزائرية وفي محلات انتشرت فيها سريعاً".