أن يهدم المرء بيته بيدَيه أمر أشدّ صعوبة من أن يهدمه سواه، حتى لو كانت القوات الإسرائيلية. وتضغط سلطات الاحتلال على عائلات مقدسية لتهدم بيوتها ذاتياً، فتجد نفسها في العراء. ومثل تلك العمليات تتكرر في القدس.
في حيّ الأشقرية بأراضي بيت حنينا شمالي القدس المحتلة، وقف محمد علي العبيدي البالغ من العمر 12 عاماً على أنقاض ما تبقّى من سبعة بيوت تعود إلى عائلته، يتفقّد بعض ما تركته الأنقاض من ذكريات. بيت والده واحد من تلك البيوت التي هدمها أفراد العائلة بأنفسهم، تنفيذاً لقرار صادر عن بلدية الاحتلال في القدس. وهذا أمر يتكرر مع عائلات مقدسية عديدة صدرت أوامر بهدم بيوتها، فتضطر إلى القيام بذلك ذاتياً تفادياً لدفع غرامات مالية باهظة في حال هدمهتا جهات تابعة للاحتلال.
يقول محمد لـ"العربي الجديد" وهو يشير إلى الأنقاض: "عندما يهدّ الشخص بيته بيديه يهدّ ما في قلبه". هي عبارة تلخّص حجم المعاناة التي عاشها وأفراد عائلته فيما كانت بيوتهم تُهدَم بأيديهم ولا حول لهم ولا قوة. لكنّ محمد يبدو كلّه عزم وإرادة، إذ يؤكد "سوف نبقى هنا. أرضك عرضك، ولا بدّ من أن تحميها. سوف نبقى فيها حتى الممات". ومحمد هو واحد من بين أكثر من أربعين شخصاً، جلّهم من الأطفال، أمضوا ليالي في العراء على أنقاض بيوتهم في داخل خيمة، فيما استأجرت الأسر السبع المنكوبة بيتاً قريباً من بيوتها المهدمة لتؤوي الفتيات الصغيرات والنساء وكبار السنّ. على الرغم من كلّ الألم الذي يشعر به محمد، لا يخفي إيمانه بأنّ الله سوف يعوّضهم خيراً عمّا فقدوه. لكنّه يفكّر كثيراً في الحال مع قرب انطلاق عام دراسي جديد في مطلع سبتمبر/ أيلول المقبل. هو سوف يلتحق بزملائه في الصف التاسع، وهؤلاء قد يسألونه عن بيته وعن المكان الذي سوف يقصده حين ينتهي دوام المدرسة.
عمر العبيدي قريب محمد، يصغره بثلاثة أعوام. بالنسبة إليه فإنّ الخيمة التي نصبها أشقاؤه على أنقاض بيتهم هي "مأواي الجديد". وعند سؤاله عن سبب الهدم، يقول عمر لـ"العربي الجديد" ببراءة: "طلبوا منّا هدم بيوتنا السبعة، فهدمناها واستأجرنا بيتاً للبنات. هدموا بيوتنا لأنّهم يريدون فتح شوارع للمستوطنين". يضيف عمر أنّهم سوف يضطرون إلى إيجاد مكان في الخيمة لكتب الصف الثالث الابتدائي، فيعودون إليها كلما يُطلب منهم القيام بواجاتهم المدرسية في داخل الخيمة.
بدورها، هدمت عائلة المواطن المقدسي المقعد عبد الله خضر من حيّ الأشقرية، بيتها المؤلّف من ثلاث شقق ذاتياً، بعدما أخطرها الاحتلال قبل نحو أسبوعين بضرورة إخلائه تحت طائلة تنفيذه الهدم وتكبيد العائلة التكاليف. يُذكر أنّ خضر الذي كان قد أصيب في وقت سابق بسكتات دماغية ويعاني حالياً من صعوبة في النطق، استأجر جرّافة لتنفيذ أمر الهدم. يقول خضر لـ"العربي الجديد" من على كرسيه المتحرك: "خضت على مدى أكثر من عشرين عاماً صراعاً في محاكم الاحتلال من أجل إنقاذ بيت العائلة من الهدم، لكن من دون جدوى. وانتهى الأمر بأنّني هدمته بنفسي". يُذكر أنّ أصول خضر تعود إلى قرية بير ماعين المهجّرة والمدمرة والتي أقيمت على أنقاضها مستوطنة موديعين، غرب القدس على الطريق إلى مدينة يافا. واليوم يختبر أفراد عائلة خضر الذين يزيد عددهم عن 25 فرداً التشرّد ويعيشون في العراء على أنقاض ما هُدم، علماً أنّ العائلة عانت من النكبة والنكسة.
ولا يخفي خضر أنّه كان قد قرر قبل أسبوعَين، بعد تسلمه أمر الهدم من دائرة الإجراء الإسرائيلية وهي مؤسسة حكومية تنفذ قرارات محاكم الاحتلال، مواجهة القرار بالصمود والبقاء في بيته حتى لو دفعوا له ملايين الدولارات. لكنّ الضغوط التي مارستها دوائر أمن الاحتلال في الأيام الأخيرة على أفراد عائلته، دفعته إلى القرار الأصعب في حياته وهو هدم البيت بدلاً من أن يستولي عليه مستوطنون من بعده.
تخوض عائلتا العبيدي وخضر صراعاً قضائياً مع بلدية الاحتلال في القدس منذ أعوام، علماً أنّ صراع عائلة العبيدي يعود إلى أكثر من 12 عاماً حين تلقت أوامر هدم من قبل بلدية الاحتلال. وتراوح المحاكم مكانها منذ ذلك التاريخ، وفي كلّ مرة كانت الأحكام الجائرة تقضي بتغريم كلّ أسرة مبلغ 70 ألف شيقل (نحو 22 ألف دولار أميركي)، حتى بعد هدم بيوت تلك الأسر السبع فستظل تسدد الغرامات المالية لبلدية الاحتلال.
وعن مصير الأسر السبع، يقول وليد العبيدي لـ"العربي الجديد" إنّ "قسماً منها يقيم في الخيمة المؤقتة، وقسماً آخر يضمّ النساء استُئجر له بيت. وبعد حين، ربّما تضطر بعض الأسر إلى إرسال أبنائها إلى أقارب لها في الضفة الغربية". أمّا خضر فيقول لـ"العربي الجديد": "لقد عرضوا علينا التعويض في مقابل الإخلاء، لكنّني رفضت. أمضينا 20 عاماً في المحاكم، لكن ماذا يمكنك القول إذا كان غريمك هو القاضي".
في هذا الإطار، تتحدث ندى عبد الله خضر لـ"العربي الجديد" عن تفاصيل قضية عائلتها، موضحة أنّ "جدتي كانت اشترت الأرض المقامة عليها بيوت العائلة في خمسينيات القرن الماضي، وقد شيّدت عليها غرفتين في البداية. وفي عام 2000، انتقلت مع أطفالي للعيش مع جدتي بعد وفاة زوجي. ونظراً إلى ضيق المكان، عمدت إلى توسيع البناء، ثمّ أصدرت بلدية الاحتلال في القدس قرار هدم وفرضت مخالفة بسبب بناء غير مرخص. وفي عام 2014، تمكنّا من الحصول على ترخيص بناء. وما إن تمّ ذلك، تلقّينا إشعاراً من قبل من يسمّى بحارس أملاك الغائبين الإسرائيلي يطالبنا بتسليم الأرض وما عليها بحجة أنّها تعود ليهود".
تضيف خضر أنّ "سنوات طويلة أمضيناها في المحاكم، عُقدت في خلالها أكثر من 12 جلسة تراوحت قراراتها ما بين التأجيل والطلب منّا تقديم مستندات وأوراق ثبوتية تؤكّد ملكيتنا للأرض. كان علينا الحصول عليها من دوائر الطابو في الأردن وتركيا، لكنّ ما حدث بعد ذلك هو أنّ محكمة الصلح الإسرائيلية أصدرت قرار إخلاء ثبتت فيه مزاعم مستوطنين بملكية الأرض، تبعها قرار من المحكمة المركزية الإسرائيلية برفض الاستئناف الذي تقدّمنا به، في حين أنّ المحكمة العليا وهي أعلى هيئة قضائية إسرائيلية رفضت النظر في القضية". وكبرت الآلام والمعاناة حين أصيب ربّ العائلة عبد الله خضر بسكتة دماغية في خلال إحدى جلسات المحكمة. وتقول ندى: "أُصبنا كعائلة بانتكاسة كبيرة، فقد أدّت السكتة الدماغية إلى إصابة والدي بشلل نصفي، وبقي في غيبوبة وعلاج لأشهر عدّة. واليوم هدمنا بيتنا بأيدينا وعلى مرأى من والدي الذي نخشى أن نخسره".
القاسم المشترك بين عائلتَي العبيدي وخضر اللتَين اضطرتا إلى هدم بيوتهما، هو أنّ ذريعة الهدم هي نفسها: الأرض حيث شُيدت البيوت مملوكة ليهود تدّعي جمعيات الاستيطان شراءها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وفي هذا الإطار، يروي سكان حيّ الأشقرية، ومنهم المواطن سمير السعو، جار عائلة العبيدي أنّ الحيّ برمّته مستهدف من قبل الاحتلال سواء بالاستيلاء على بيوته أو هدمها.
ويتّهم السعو "بلدية الاحتلال التي تعمد إلى تنظيم المنطقة لتطبيق ما يُخطط له"، قائلاً لـ"العربي الجديد": "هم يزعمون أنّ نحو 73 دونماً من أراضي الحيّ بيعت لهم في تلك الفترة". يضيف السعو أنّ "المعاناة من جرّاء سياسة الاحتلال لا تقتصر على عائلة العبيدي وخضر، بل يعاني منها سكان الحيّ جميعاً"، علماً أنّه سبق أن هُدم بيت له في مرّة من قبل وبيت لشقيقه في ثلاث مرّات. ويتابع أنّ "كثيرة هي بيوت الحيّ المهددة بالهدم، وخيارنا كأهل هذا الحيّ ليس إلا الصمود والبقاء"، مؤكداً أنّ "بيوت عائلة العبيدي لن تكون الأخيرة التي تُهدَم. بالتالي لا بدّ من أن نصمد، فلا خيار سوى ذلك".
في حين، يقول أحمد خضر نجل صاحب البيت من عائلة خضر: "بالنسبة للمحاكم الإسرائيلية كان يكفيها مستند واحد قدمه المستوطنون إليها واعتمده قضاتها يثبت ملكيتهم المزعومة للأرض، نحن قدمنا كل ما لدينا من وثائق أحضرناها من الأردن وتركيا إلا أن المحاكم تلك لم تأخذ بها وأعطت في الأرض حقاً لمن لا هم لهم فيها ولا هم يستحقونها".
يفيد مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية زياد الحمري "العربي الجديد" بأنّه "منذ مطلع عام 2021، اضطر الفلسطينيون في القدس إلى هدم ما يزيد على 20 بيتاً بأنفسهم، في أسلوب تلجأ إليه سلطات الاحتلال للاستيلاء على الأرض وإفراغ جيوب المقدسيين، علماً بأنّ أكثر من 80 في المائة من هؤلاء يعيشون تحت خطر الفقر". يضيف أنّ "أكبر عدد بيوت هُدم في عام 2019 مع 238 بيتاً ومنشأة، منها 189 بيتاً هدمه أصحابه بأنفسهم، في حين هدم المقدسيون بأنفسهم 35 بيتاً في عام 2020". وكلّ ذلك زاد من معاناة المقدسيين وترك آثاره النفسية الصعبة في حياتهم. وفي سياق متصل، يشير منسق الائتلاف الأهلي لحقوق الفلسطينيين في القدس، زكريا عودة، إلى "سيطرة الاحتلال على 88 في المائة من أراضي القدس الشرقية المحتلة في مقابل 12 في المائة بيد الفلسطينيين".
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، عمد الاحتلال الإسرائيلي في عام 2020 إلى هدم وتدمير 976 مبنى، نحو 30 في المائة منها في محافظة القدس بواقع 296 عملية هدم، منها 180 مبنى داخل أحياء مدينة القدس. وبلغ عدد عمليات الهدم الذاتي 89 طاولت مباني يقع معظمها في محافظة القدس. كذلك، أصدر الاحتلال الاسرائيلي عام 2020 أوامر بالهدم ووقف البناء والترميم لنحو 1012 مبنى في الضفة الغربية المحتلة والقدس، بزيادة قدرها نحو 45 في المائة مقارنة بعام 2019.