- نقص حاد في الخدمات الطبية والأدوية، والأطباء يعملون تحت ظروف صعبة، مع تسجيل حالات مثل بتر قدم عثمان كمال بسبب صعوبة الوصول للرعاية الطبية، واستهداف المستشفيات واستخدامها كقواعد عسكرية.
- دعوات لتدخل دولي لتوفير الدعم الصحي والإنساني، مع التأكيد على ضرورة فتح مسارات آمنة للمساعدات الطبية وإعادة تأهيل المستشفيات المدمرة، وحماية الكوادر الصحية والمرافق الطبية من الاستهداف.
يدفع السودانيون، يوماً بعد يوم، ثمناً غالياً للحرب في بلادهم التي اندلعت في 15 إبريل/ نيسان 2023. وألحقت هذه الحرب أضراراً كبيرة بالقطاع الصحي في السودان بعدما خلّفت المعارك حتى الآن أكثر من 15 ألف قتيل في صفوف المدنيين، وآلاف الجرحى والمصابين، وأكثر من 8 ملايين شخص باتوا نازحين ولاجئين.
يقول محمد الزبير (45 عاماً)، لـ"العربي الجديد": "مررنا في بداية الحرب بتجربة قاسية حين كنا نسكن في جزيرة توتي بالعاصمة الخرطوم، وكانت زوجتي توشك على الولادة في مستشفى متخصص بالخرطوم أدخلت إليه بعد دفع الرسوم المالية، ثم اندلعت الحرب وتوقفت خدمات الأقسام بداخله. وبعد أيام ظهرت لدى زوجتي إشارات بأنها ستُنجب في وقت مبكر بتأثير الضغط النفسي الذي تعرّضت له نتيجة القصف والانفجارات، وفشلنا في نقلها إلى أي مستشفى، ولجأنا إلى قابلة في المنطقة أبلغتنا بأنها مضطرة لإجراء ولادة من دون استخدام مخدر للحفاظ على الأم والجنين، فلم نوافق. وبعدما زادت الضغوط وتوترت الحالة النفسية قررنا المغامرة بالخروج من جزيرة توتي تحت القصف والنيران، ونجونا من الموت خلال تجاوزنا خطوط النار والاشتباكات، ووصلنا إلى ولاية الجزيرة، حيث حصلت الولادة قبل موعدها في مستشفى مدني، علماً أن زوجتي كادت أن تفقد حياتها بسبب المضاعفات التي سبقت الولادة وأعقبتها".
يضيف: "كانت تجربة صادمة بالنسبة لي ولأسرتي الصغيرة، وتركت آثاراً نفسية كبيرة لدينا لم نستطع أن نتعافى منها قبل أن تنتقل الحرب إلى ولاية الجزيرة وننزح للمرة الثانية إلى قرى منطقة المناقل، وبعدها انتقلت المعارك إلى قرى وأرياف سيطرت عليها قوات الدعم السريع، ومارست فيها أبشع أنواع الانتهاكات كالقتل والنهب والسلب والاغتصاب والترويع". ويؤكد الزبير أن "الحال الصحية متردية جداً في ولاية الجزيرة، حيث لا يوجد إلا مركز صحي فقير واحد لا يستطيع تأمين الخدمات الطبية والأدوية. وقد مات مدنيون كثيرون، خاصة ذوي الأمراض المزمنة".
من جهته، عانى عثمان كمال خلال أشهر الحرب من مضاعفات مرض السكري، إذ أصيب بجرح صغير في القدم من دون أن يستطيع دخول مستشفى قريب، فنصحه أشخاص بالبحث عن مكان آخر للعلاج، واختار التوجه مع مرافقين إلى مدينة شندي (شمال)، لكن الطرق إلى المدينة كانت مغلقة بسبب المعارك، فسلك طريقاً ترابياً عبر سهول وتعرّض لمخاطر، منها انتشار عصابات النهب، ثم وصل إلى المدينة بعد يومين فأبلغه الطبيب بأن حالة قدمه ساءت ولا بدّ من بترها بالكامل. وحصل ذلك في مستشفى خاص مقابل مليوني جنيه (1500 دولار)، واضطر لاستئجار شقة بكلفة أكثر من مليون جنيه لمواصلة المقابلات الطبية. يقول نجم الدين، ابن عثمان، لـ"العربي الجديد": "لم نكن نملك الأموال المطلوبة، لكن أقارب وأهلاً وخيّرين تدخلوا لتوفيرها".
بدورها، تقول نجلاء جادين، من منطقة سوبا بولاية الخرطوم، لـ"العربي الجديد": "كنت حاملاً في الأشهر الأخيرة حين أبلغني الطبيب بأن طفلي سيحتاج بعد الولادة مباشرة إلى أجهزة حضانة خلال فترة تمتد ما بين أسبوعين وشهر". وقبل أن تكمل التسعة أشهر أيقنت بضرورة المغادرة إلى مستشفى يعمل في الخرطوم ويحتوي على أجهزة الحضانة. تضيف: "غادرت وحدي وتركت أطفالي الآخرين مع جدتهم، في حين أن زوجي معتقل منذ فترة لدى قوات الدعم السريع. توسلت للناس لدخول مستشفى في ولاية قضارف (شرق). وبعدما أجريت العملية بقي مولودي في الحضانة المدة المطلوبة ثم عدت إلى أبنائي أحمل مولودي وآلامي".
ويؤكد أطباء وعاملون في كوادر صحية أنهم يعملون في ظروف صعبة جداً، وأن نحو 50 منهم دفعوا حياتهم أثناء أداء عملهم، وذلك استناداً إلى إحصاءات أصدرتها نقابة أطباء السودان. ومن بين الذين قتلوا أثناء الحرب الطبيب في مستشفى مدينة عرب سر الختم عوض الكريم عثمان، الذي أرداه أفراد من قوات الدعم السريع بسبب إجرائه عملية جراحية فاشلة لعنصر من هذه القوات ما أدى إلى وفاته. ويلخص الطبيب هيثم عبد الله، في حديث لـ"العربي الجديد"، المخاطر التي تعرّض لها أطباء وعاملون صحيون خلال الأشهر الماضية بأنها تشمل القتل والاختطاف والإجبار على العمل في معسكرات قوات الدعم السريع، والموت أثناء القصف وتبادل النيران، أو الاستهداف المباشر. ويشير إلى مشكلات لوجستية أخرى تتمثل في عدم القدرة على الحركة أو التنقل.
وحول مجمل أوضاع القطاع الصحي يوضح عبد الله أن الوضع الصحي في السودان كان سيئاً في مرحلة ما قبل الحرب، قبل أن ينهار بالكامل مع اندلاعها خاصة في الخرطوم. وانتقلت الخدمات إلى ولاية الجزيرة حيث شهدت مدينة ود مدني نقلة نوعية رغم ضعف التجهيزات والقدرة الاستيعابية للمراكز الصحية، ثم أصبحت المدينة خلال وقت وجيز قلب السودان الطبي، وأجريت عمليات جراحية للمرة الأولى خارج الخرطوم، ونجحت السلطات في استعادة مظلة تحصين الأطفال في المناطق التي تخضع لسيطرة الجيش، كما نجحت منظمات دولية في إعادة تفعيل بعض المستشفيات. لكن عبد الله يرى أن "انتقال الحرب إلى ولاية الجزيرة لاحقاً أزال حال الاستقرار النسبي فباتت مناطق كثيرة خارج التغطية الصحية، وتحديداً تلك التي تحتلها قوات الدعم السريع، وأصبح شرقي السودان وشماله ملجأ للعلاج. ويبقى الحل في التزام أطراف الحرب بالقانون الدولي، وعدم التعرض للكوادر الصحية، والبعد عن استهداف أو استغلال المستشفيات والمرافق الخدماتية كأهداف أو قواعد عسكرية".
ويصف الدكتور عمر أحمد صالح، منسق العون الإنساني في هيئة القوى المدنية الديمقراطية، وهو تحالف مناهض للحرب، الوضع الصحي في السودان بأنه "كارثي جداً، إذ انهارت الخدمات الصحية بشكل كبير جداً فيه خصوصاً على صعيد التدخلات الثانوية والتخصصات الدقيقة. ويعاني المرضى من شحّ الدواء وضعف عدد الكوادر الطبية وغياب الأجهزة الإدارية التي تنفذ مهمات تسهّل العمل". يضيف: "تضرر المواطنون من عدم سهولة الوصول إلى المراكز الصحية وقطع مسافات طويلة وشوارع خطرة لتلقي الخدمات الصحية. وقد نزح عدد كبير جداً من الناس إلى ولايات محددة، منها ثلاث في الشرق واثنتان في الشمال إضافة إلى ولاية سنار (جنوب شرق)، فقد تأثرت الخدمات الصحية هناك، وباتت المؤسسات الصحية الموجودة غير قادرة على تلبية احتياجات المرضى، علماً أن بعض الولايات فقيرة في الأساس وتعاني الخدمات الصحية فيها منذ ما قبل الحرب.
إلى ذلك، فقِدت خدمات بالكامل لأنها كانت تتمركز في الخرطوم، وخرجت أكثر المستشفيات المرتبطة بالقطاع الخاص من الخدمة، علماً أن القطاع الخاص يقدم أكثر من 50 في المائة من الخدمات الصحية في الخرطوم وولاية الجزيرة. ويشدد عمر صالح على أهمية فتح مسارات آمنة لإدخال مساعدات طبية وتوفير أدوية ومواد استهلاكية طبية وجراحية، وضمان توفير حوافز ورواتب للكوادر الطبية، ويخبر بأن "المستشفيات والمرافق الصحية تعرّضت لنحو 80 هجوماً خلال الحرب، ما يؤكد نظرة طرفي الحرب إلى هذه المرافق باعتبارها أماكن متنازعاً عليها، ما ينتهك القانونين الدولي والإنساني".
وتفيد معلومات بأن نحو مائة مستشفى حكومي وخاص دُمرت في العاصمة الخرطوم، وأن بعضها باتت قواعد عسكرية وثكنات للجنود. وأعلن وزير الصحة هيثم محمد إبراهيم أن "حجم الدمار والتخريب في القطاع الصحي في السودان يُقدّر بنحو 11 مليار دولار، وأن الحرب دمّرت مستشفيات بالكامل"، وأكد سعي الحكومة بجهد محلي ودعم دولي إلى إعادة المستشفيات المدمّرة إلى العمل، وإطلاق صندوق لإعادة إعمار وتأهيل المستشفيات، بدءاً بتلك الموجودة في ولاية الخرطوم.
من جهتها، أدانت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، في أكثر من مناسبة، الاعتداءات على مرافق الرعاية الصحية، واعتبرت أن "الهجمات التي تستهدف العاملين في مجال الرعاية الصحية والمرضى والمرافق تشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي ويجب أن تتوقف فوراً، كما يجب السماح للكوادر الصحية بالعمل من دون خوف أو قلق على سلامتهم الشخصية أو سلامة مرضاهم". وحمّلت اللجنة أطراف الصراع المسؤولية المباشرة عن حماية العاملين الطبيين والمستشفيات ووسائل النقل الطبية، باعتبار أن القانون الإنساني الدولي يوفر حماية خاصة للمستشفيات والوحدات الطبية والعاملين في الرعاية الصحية، وكررت مناشدة المنظمات الدولية، على رأسها منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر الدولي، مواصلة حث أطراف النزاع على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الكوادر الطبية والمدنيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وخلق ممرات آمنة لنقل المصابين والجثث، وتوفير الإمدادات الطبية لما تبقى من مستشفيات عاملة.
وبعد اندلاع الحرب في السودان زادت معدلات تفشي الأمراض، وظهرت حمى الضنك والكوليرا في عدد من الولايات وأصابت آلاف الأشخاص. وتشير تقارير رسمية إلى أن أكثر من 200 شخص توفوا بأمراض مرتبطة بالكوليرا. كما تدهور الوضع البيئي في عدد من المدن، وتراكمت النفايات طوال أشهر، وشهدت بعض المناطق انتشاراً للجثث وتحللها، ما ينذر بأمراض خطيرة. ويقول آدم رجال، الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، لـ"العربي الجديد": "الوضع الصحي في مخيمات النزوح بولاية دارفور، حيث يعيش الملايين، هو الأسوأ على الإطلاق، فالمراكز الصحية الموجودة في هذه المخيمات تفتقر إلى أبسط المقومات، وتنعدم فيها الأدوية المنقذة للحياة. ويؤثر هذا الوضع على الشرائح الضعيفة خصوصاً الأطفال الذين يصابون بأمراض مزمنة، وحديثي الولادة الذين لم يجدوا منذ اندلاع الحرب جرعات التطعيم ضد أمراض عدة، مثل الشلل والسل والدرن والحصبة، وقد تجاوز عدد الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية المليون، توفي أكثر من 5610 منهم.