شهدت الأشهر الماضية نزوحاً غير مسبوق باتجاه الريف الصيني، ما شكل حركة معاكسة لتلك الاعتيادية خلال العطلات الرسمية، وساهم في ذلك تكرار إغلاقات مكافحة كورونا، وفقدان كثيرين لوظائفهم.
ولجأ مئات الآلاف من الصينيين إلى القرى التي لا تخضع لإجراءات صارمة، وتوفر بيئة صحية آمنة على صعيد الهواء النقي والأطعمة الطازجة، وتعزز أيضاً الاقتراب من الخصائص الاجتماعية على مستوى العلاقات الإنسانية وصلات الرحم بين الأهل والأقارب.
وكان لافتاً خلال الفترة الماضية تداول العديد من القصص حول الريف في مواقع التواصل الاجتماعي الصينية. وكتبت لين مينغ قصتها بعنوان: كيف وقعت في عشق الريف، بعدما غادرت مدينة شنغهاي الصاخبة قبل ستة أشهر، وعادت إلى مسقط رأسها في قرية صغيرة (جنوب غرب). وقارنت في القصة بين الريف والمدينة، وعرضت لتفاصيل انقلاب حياتها رأساً على عقب من جحيم الحجر الصحي والإجراءات الاحترازية إلى فضاء رحب. وقد لاقت قصتها تفاعلاً كبيراً من النشطاء ومستخدمي الإنترنت، وأصبحت حافزاً لكل من يرغب في مغادرة المدن باتجاه الريف.
وبحسب شركة تونغ شينغ، أكبر موقع لحجز رحلات السفر في الصين، عاد نحو 250 مليون مواطن من المدن نحو الريف منذ مطلع إبريل/ نيسان الماضي، رغم أن هذه الفترة تلت عطلة رأس السنة الصينية في فبراير/ شباط التي تشهد عادة عودة عكسية نحو المدن بعد قضاء الموظفين إجازاتهم بين أهلهم وذويهم.
واعتبر مراقبون أن أعداد العائدين تعكس رغبة حقيقية لدى شريحة كبيرة من الصينيين في البقاء والاستقرار بالريف، وأرجعوا ذلك إلى أسباب الضغط والعبء النفسي الذي تفرضه المناطق الحضرية على الشباب تحت وطأة الإيقاع السريع لنمط الحياة الصناعية، إضافة إلى الأزمات الكبيرة التي سبّبتها جائحة كورونا.
تقول تشو تانغ، وهي أم لثلاثة أطفال في عقدها الرابع أقامت مع زوجها وأبنائها في العاصمة بكين، قبل أن تعود مع عائلتها إلى قريتها الصغيرة الواقعة في مقاطعة يونان (جنوب غرب) إثر تدهور حالة وباء كورونا في المدينة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي: "بعدما أصيب أحد أبنائي بفيروس كورونا خضعنا لحجر صحي استمر أسبوعين، فعشت مع أسرتي فترة عصيبة، ثم قررنا العودة إلى القرية مباشرة بعد انتهاء الحجر. وهناك كان الأمر مختلفاً تماماً، وأشعرنا الفضاء المطلق والهواء النقي أننا مثل الطيور التي تحررت من القفص، وجددنا علاقتنا مع الطبيعة وأشعة الشمس التي كنا نفتقدها في صقيع بكين، كما أعدنا تعريف علاقتنا بالأرض، وبتنا في كل صباح نستيقظ على صياح الديك، فيخرج الأولاد لتناول الفطور وإطعام الدجاج".
تتابع: "بعد العودة إلى القرية شعرت بأن أطفالي اكتسبوا مهارات جديدة، وبدأوا يستخدمون أطرافهم في القفز والتسلق، وأدهشتني قدرتهم السريعة على التكيف مع أجواء الريف. ولم نشعر بملل، رغم أن القرية لا تقارن بالمدينة على صعيد وسائل الترفيه المتاحة، لكن ما معنى أن تسكن في المدينة وتُحرَم كل النعم بسبب الأوبئة والإغلاقات والحجر الصحي؟".
وتعلّق بأن "رائحة التراب في الحقول وجداول المياه لا يعادلها شيء في المدينة. كانت تجربة ثرية لي ولأبنائي، وقررت مع زوجي أن تستقر الأسرة في القرية، وأن يدرس أطفالنا فيها". ورداً على سؤال عن الفارق في جودة التعليم بين المدينة والريف، وتأثير هذا الأمر في مستقبل أبنائها، تقول: "ما جدوى الانتساب إلى مدارس مغلقة في المدينة، فطوال عام كامل لم يتمكن الأولاد من الانتظام في الدراسة، وقضوا معظم وقتهم في المنزل وتعلموا عن بعد، وهي طريقة غير ناجعة ومملة جعلت التلاميذ يعتادون الكسل وعدم المثابرة.
ويرى أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة صن يات سن، وي لي فنغ، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "العودة إلى الريف حركة طبيعية وحتمية في زمن الأوبئة والكوارث، لأن القرية هي الحصن الأول والملاذ الآمن للفرد، بغضّ النظر عن محل إقامته ومكانته الاجتماعية".
يضيف: "من الناحية الفلسفية، الأرض هي المكان الذي بدأ فيه الإنسان، وسنعود إليها، وهذه حقيقة يعرفها جيل الآباء والأجداد، لكن بالنسبة إلى الأجيال الجديدة فهي مجرد تجربة حداثية أقرب إلى المغامرة، غير أن ما يرجح كفة على أخرى هو المقاربة التي يجريها البعض في ظل تفاوت الظروف المعيشية بين الريف والمناطق الحضرية، إضافة إلى عامل الضجر بسبب السياسات الشديدة المتّبعة في المدن في فترات الوباء، الأمر الذي يرجح كفة الريف في أي مقارنة. وقد تُرجم ذلك في عودة مئات الآلاف من الشبان إلى القرى، وهي خطوة يجب أن تلتفت إليها السلطات من خلال محاولة تحقيق درجة من التوازن بين التنمية في المدينة والريف، لأن استمرار الوضع الراهن قد يؤدي في المستقبل القريب إلى تفريغ المدن من العمال والموظفين، ما سيعوق عجلة الاقتصاد والنمو والتقدم".