في وقت تتميز منطقة سيدي بوسعيد في تونس العاصمة ببيوتها المرصوفة عمودياً بإتقان وتناسق، وثنائية اللونين الأزرق والأبيض اللذين لا يغيبان عن أي من بيوتها، وأبوابها وشبابيكها المزينة بنقوش وزخارف تعكس أسلوباً معمارياً تقليدياً خاصاً بها، اختار علي الغربي تجسيد مباني هذه المدينة وألوانها في أحد أعماله الفنية، لكن ليس بالفرشاة والألوان، بل بحطام السفن، وكلّ ما يلفظه البحر من مواد طبيعية قد يستعملها في أعماله الفنية.
وجسّد الغربي شكل مدينة سيدي بوسعيد بتفاصيلها الدقيقة، لدرجة تجعل كلّ من يرى لوحاته يعرف تلقائياً أنّها تعود إلى المدينة الساحلية.
درس الغربي التسويق، ويعمل في تدريس ميكانيك السيارات في مركز للتكوين المهني، لكنّه مغرم منذ صغره بابتكار أعمال فنية. وهو يعيش في منطقة حمام الشط التي تبعد قرابة 25 كيلومتراً عن العاصمة، ويقطن تحديداً بين البحر والجبل، ووسط طبيعة يستمد منها أفكاره، وتُوفر له المواد الأولية لتصميم أعماله الفنية، ما منحه صفة "فنان إيكولوجيا" متخصص في صنع لوحات بشكل مختلف عن أي أعمال فنية أخرى، والتي لا يعتمد فيها على الفرشاة والألواح، بل على ما يبقى من حطام السفن، أو أي شيء طبيعي يجده على الشواطئ، فينظف الأشياء التي يلتقطها بعناية في مرحلة أولى كي لا يُغيّر شكلها، ثم يُجففها تحت أشعة الشمس في ظروف طبيعية لتبقى على ما هي عليه من دون أن يُحدث بها تغييرات.
باشر هذا العمل عام 2009 من خلال تجربة أعمال بسيطة كان يحتفظ بها لنفسه، لأنه لم يخطر في باله أنها ستلقى رواجاً، خصوصا أنّ فكرة إنجاز أعمال فنية من مخلفات السفن غريبة وغير اعتيادية لدى البعض. لكن بعد الاطلاع على ما يقوم به من لوحات فنية، طلب منه مقربون إنجاز بعض المجسمات، ثم اتخذ خطوة نشر صور لكلّ ما يصنعه على مواقع التواصل الاجتماعي، ما ساعد في التعريف بأعماله التي بات يطلبها كثيرون.
يتطلب أي عمل فني ينفذه الغربي وقتاً غير قليل لتوفير مواده الأولية وتنفيذه خلال وقت فراغه من العمل. وهكذا استغرق إنجاز بعض أعماله أكثر من شهرين وصولاً إلى سنة، علماً أنه قد لا يحتاج إلى أكثر من يوم واحد لتطبيق فكرة معينة في حال توفرت المواد التي يحتاجها.
ويختلف سعر كل عمل فني بحسب حجمه، وما يتطلبه من وقت ومن مواد أولية، وتفاصيل قد يستغرق إنجازها الكثير من الوقت.
ويختار الغربي عادة صوراً لمدن تونسية ينتقي أشهر مبانيها ومنشآتها ومعالمها، وينطلق في رحلة البحث عن المواد الأولية قرب مكان سكنه على الشاطئ. يجمع كلّ ما قد يحتاجه عمله، وكذلك بقايا خشب في بهو بيته كي يستعملها في أعمال أخرى. وهو اختار تجسيد أشهر المدن التونسية، على غرار سيدي بوسعيد وجربة وبنزرت التي تتميّز كل منها بطابع معماري معين، وتفاصيل تجعلها مختلفة، وذلك بعد الاطلاع على تاريخ كل معمار وشكل المباني وألوانها بدقة كي يستطيع تجسيدها في أعماله.
وبين ميزات الأعمال الفنية المرغوبة للغربي، عدم إضافته أي تغييرات على المواد الطبيعية التي يجمعها، وعدم قص أي أجزاء منها أو تغيير لونها، فهو يجمعها فقط، ويركبها في شكل فني تشمل نحته كلّ التفاصيل التي يجب أن تتوفر في عمله الفني. كما يبقي على الألوان الطبيعية لهذه المواد، خصوصاَ الخشب الذي تختلف ألوانه باختلاف نوع الأشجار التي استخرجت منها.
يقول: "معظم الخشب الذي استعمله هو من حطام السفن. وقد يكون من مخلفات قوارب الهجرة السرّية أو قوارب الصيادين، كما قد يتجاوز عمر بعضها 100 سنة أحياناً. وبفعل العوامل الطبيعية، يتغير شكل الخشب ولونه، فأنحت منه أعمالاً فنية بألوان طبيعية. وقد أضيف إلى هذه الأعمال الفنية مواد أخرى، مثل الحديد والبلاستيك لنحت ونقش الأبواب والشبابيك، لكنني أفعل ذلك بكميات بسيطة لأنني أحرص على جعل الخشب الطبيعي المادة الأولى".
يضيف: "أجمع حتى بقايا القُلل التي تُستعمل في صيد الأخطبوط لصنع أعمال حرفية وفنية أخرى، لكنّني أركز بالدرجة الأولى وبشكل أكبر على جمع الخشب".
وشارك الغربي في معارض بتونس، حيث لقيت أعماله الفنية إقبالاً وطلباً كبيراً من قبل الزوار.
واللافت أنه قد لا يستطيع توفير ما يطلب منه خلال وقت وجيز، فكلّ عمل فني يتطلب وقتاً في البحث عن خشب، وتركيب القطع لتشكيل العمل. ويطمح في الحصول على بطاقة حرفي والمشاركة في معارض عالمية، خصوصاً أنّه يواصل الاطلاع على كلّ الأعمال الفنية التي تشبه نماذجه.