منذ أكثر من خمسة أعوام، يحتكر علاء وشقيقه محمد مفترقاً في تونس المنزه السابع، أحد الأحياء السكنية الراقية في العاصمة تونس. واعتاد المارة رؤية الطفلين يبيعان الياسمين صيفاً والمناديل الورقية في بقية فصول السنة. وأصبح للطفلين أصدقاء يقفون بدورهم عند الإشارات الضوئية والمفترقات. وحتى حين كبر الطفلان، ظلّا وفيين للمكان.
علاء ومحمد من بين آلاف الأطفال الذين يتنقلون بين المفترقات والإشارات الضوئية، ويتخذون أماكن ثابتة لكسب الرزق، غالباً بإيعاز من عائلاتهم. هؤلاء يتشاركون الظروف المعيشية الصعبة التي دفعتهم إلى العمل في سن مبكرة، علماً أن تونس أقرت المجلة القانونية لحماية الطفل منذ عام 1995.
ويقول علاء (15 عاماً) إنه يقف عند مفترق المنزه السابع مع شقيقه محمد، ويتقاسمان العمل عند إشارات المرور. يقف كل منهما على رصيف في اتجاهين مختلفين، ويعرضان ما يحملانه من سلع. وجرت العادة أن يتسلّم علاء المقرّ المعتمد من زملائه الذين يقاسمونه المكان نفسه بحثاً عن الرزق، عند التاسعة مساءً، كما يقول لـ "العربي الجديد". ويعمل حتّى ساعة متأخرة من الليل، وقد اختار العمل في هذا التوقيت لأنه يفضل زبائن الليل وهدوء حركة المرور.
يقول إنّ هدوء الليل يجعل الزبائن أكثر كرماً، إذ لا يكونون على عجلة من أمرهم، و"غالباً ما أجد الفرصة للحديث معهم مطولاً، أو إلى أن أحصل على المال". ويوضح علاء أن هذا العمل يحتاج إلى تقنيات وخفة، إضافة إلى قدرة إقناع كبيرة خلال مدة زمنية لا تتجاوز الدقيقة، وهي مدة توقف السيارات عند إشارات المرور.
ولهذا العمل قوانينه التي يتفق عليها الزملاء، إذ يقسّمون عدد ساعات العمل، كما يعملون ضمن مجموعات صغيرة ويحتمون ببعضهم بعضاً، هم الذين يدركون المخاطر الكبيرة في الشارع. وخلافاً لأطفال آخرين، يعملان تحت أنظار والدتهما خديجة التي تجلس في ركن على حافة المفترق وتظل تراقب علاء ومحمد من بعيد إلى حين انتهاء عملهما.
ولا تُعدّ وزارة الشؤون الاجتماعية عمل الأطفال كباعة متجوّلين عند المفترقات ضمن قائمة الأعمال المحظورة قانونياً، على الرغم من المخاطر العديدة التي تتهدد هذه الفئة ممن يجدون أنفسهم في مواجهة مخاوف الشارع بكل مستوياتهم، بما في ذلك إمكانيات تعرّضهم للعنف أو الاستغلال الجنسي.
وفي إبريل/نيسان الماضي، أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية قائمة بـ 28 مهنة محظورة على الأطفال، ولا تشمل الباعة المتجولين. وحاول المشرّع التونسي بعد الثورة العمل على تحسين وضعية الطفل العامل من خلال مجموعة من التشريعات، لعلّ أهمها قانون الاتجار بالبشر الصادر في 3 أغسطس/آب 2016، والذي أقر بمنع "الاستغلال الاقتصادي أو الجنسي للأطفال بمناسبة تشغيلهم".
ويقول عضو الهيئة التونسية لمكافحة الاتجار بالبشر مالك الخالدي، إنّه عادة ما يتمّ استغلال الأطفال الذين يعملون كباعة متجولين في الشوارع اقتصادياً، ما يجعلهم عرضة لمخاطر جسدية ونفسية أخرى. ويؤكد لـ "العربي الجديد" أن الهيئة لا تملك بيانات دقيقة عن عدد هؤلاء الأطفال، لافتاً إلى سعي الهيئة إلى مكافحة الاتجار بالأطفال أو استغلالهم.
يضيف أنّ هؤلاء الأطفال هم في الغالب ضحايا عائلاتهم التي تدفع بهم للعمل في الشوارع كباعة متجولين نتيجة للفقر والسعي إلى تحسين الدخل. وغالباً ما تكون النتيجة التسرّب المدرسي والانخراط في سوق العمل مبكراً. وتدفع الظروف الاقتصادية الصعبة الكثير من العائلات إلى تشجيع أطفالها على الالتحاق بسوق العمل وسط توقعات بارتفاع نسبة عمالة الأطفال في ظل ارتفاع نسبة الفقر في البلاد، والذي بات يستهدف 25 في المائة من أطفال تونس.
وفي شهر أغسطس/آب الماضي، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" أن نسبة الفقر ارتفعت لدى الأطفال في تونس إلى 25 في المائة، بعد شهرين من الحجر الصحي الشامل، في مقابل 19 في المائة قبل تفشي الجائحة. وتكشف الدراسة التي تناولت آثار الحجر الصحي الشامل الذي أقرته السلطات لاحتواء فيروس كورونا، أن عدد الأطفال التونسيين الذين يرزحون تحت وطأة الفقر ارتفع إلى 900 ألف، في مقابل 685 ألف طفل قبل الحجر الصحي.
وعزت الدراسة ارتفاع معدل الفقر بين الأطفال إلى تدهور القدرة الشرائية لعائلاتهم، مشيرة إلى أن معدل انخفاض القدرة الشرائية بلغ 7 في المائة، لكنه يرتفع إلى 10 في المائة في أوساط الفقراء في مقابل 5 في المائة فقط لدى الأغنياء.
ولا تتجاوز نسبة تشغيل الأطفال، بحسب بيانات رسمية لوزارة الشؤون الاجتماعية، 7.9 في المائة من مجموع الأطفال بحسب إحصائيات عام 2017.
وتسعى المنظمات الدولية الحقوقية والإنسانية إلى مكافحة عمالة الأطفال دون سن الثامنة عشرة، لأنها تنتقص من طفولتهم وحقهم في الرعاية والتعلّم، وتعرضهم إلى مخاطر صحية. وخلال السنوات العشر الماضية، زاد عدد البلاغات المتعلقة بعمالة الأطفال، ليرتفع من 8272 بلاغاً عام 2009 إلى 17506 بلاغاً عام 2020.