دخل قرار منظّمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بخفض خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة في مخيّمات اللاجئين السوريّين في لبنان بسبب النقص الحادّ في التمويل، حيّز التنفيذ اعتباراً من الأول من الشهر الحالي. قرارٌ وصفه اللاجئون السوريّون في مخيّمات عرسال (شرق لبنان) بـ "الجائر كونه يطاول المقوّمات الأساسيّة للحياة لما يقارب 45 ألف لاجئ في البلدة، علماً أنّ الحقّ بالمياه والنظافة خط أحمر لا يمكن المساس به، فكيف الحال عندما تُقدم منظّمات إنسانيّة على خطوةٍ من هذا النّوع؟".
وكان اللاجئون في عرسال قد أصدروا بياناً موجّهاً إلى "يونيسف" والمفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وغيرها من المنظمات العاملة في عرسال، أعلنوا فيه اعتذارهم عن استقبال أيّ من الجمعيات التابعة لتلك المنظّمات أو المموّلة من قبلها إلى حين "التراجع عن القرارات المهينة بحقّ الإنسانيّة وضمان عدم التلاعب بالحقوق المشروعة إنسانيّاً، مع تحميل تبعات القرار الجائر وتداعياته السلبيّة كافّة للجهة المسؤولة عنه". ورأوا أنّ "تلك المنظمات الإنسانية لا تكترث بحقوق الإنسان وحقوق الطفل والمرأة، لا سيما وسط الأزمة الاقتصادية الخانقة، واستمرار مطالبة المنظمات الصحية بضرورة الوقاية من جائحة كورونا والأمراض المشابهة كالكوليرا التي تهدّد المنطقة والجدري والأمراض الجلديّة المختلفة".
عواقب وخيمة
ويوضح عضو فريق "ناشطون" (يضم مجموعة من اللاجئين السوريين وقد تأسس لمتابعة قضايا اللاجئين في عرسال) إبراهيم مسلماني في حديثه لـ "العربي الجديد" أنّ "عدد اللاجئين السوريّين في عرسال يقارب 64 ألف لاجئ، بينهم نحو 45 ألفاً يعيشون في 9 آلاف خيمة موزّعة على 164 مخيّماً، في وقت تقطن البقية في منازل مستأجرة". ويشير إلى أن "سكان المخيمات هم الذين يستفيدون من خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة العامة التي تقدّمها يونيسف من خلال شركائها، سواء عبر منظّمة "العمل ضد الجوع" (AAH) أو "الجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب (Lost)".
يتابع: "خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، أبلغ الفريق مشرفي المخيّمات بتوجّههم نحو خفض كمية مياه الخدمات المقدّمة من 27 ليتراً إلى 7.5 ليترات لكلّ فرد يوميّاً، ومعدّل سحب الجور الصحية (تجمعات المياه الآسنة) من 17 ليتراً إلى ليترين فقط لكلّ فرد يوميّاً، علماً أنّ معايير إسفير (Sphere) للاستجابة الإنسانية (مجموعة من المبادئ والمعايير الدنيا التي تغطي أربعة مجالات تقنية في مجال الاستجابة الإنسانية: الإمداد بالماء والإصحاح والنهوض بالنظافة (WASH)، الأمن الغذائي والتغذية، المأوى والمستوطنات البشرية، ومجال العمل الصحي) المتّفق عليها دوليّاً، تنصّ على توفير 15 ليتراً يوميّاً من المياه لكلّ فرد و12 ليتراً للخدمات و3 ليترات لمياه الشرب، ما يعني أنّ التوزيع أقلّ من الحد الأدنى وفق كلّ المراجع الإنسانيّة". ويقول: "سيكون للأمر تداعيات شديدة، وخصوصاً في ظلّ الأزمة الخانقة التي يعانيها اللاجئون في لبنان. فخزان المياه سعة ألف ليتر يقارب سعره 70 ألف ليرة لبنانية (الدولار يساوي 38000 ليرة لبنانية)، وكلفة سحب مياه الجور الصحية تصل إلى نحو 50 دولاراً أميركيّاً، بالإضافة إلى الأعباء المعيشية اليومية، في وقت تغيب خدمات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن نحو 1660 عائلة لاجئة".
مياه آسنة وأمراض
ويكشف مسلماني أنّ "الجور الصحية بدأت تطوف في عدد من المخيمات منذرةً بعواقب وخيمة إن لناحية انتشار الأوبئة والأمراض الخطيرة أو لناحية اندلاع الخلافات والمشاكل مع أصحاب الأراضي والعقارات المجاورة، وبالتالي احتمال وقوع فتنة مع المجتمع المضيف. وهذا ما يجري حاليّاً في مخيم الحصن، وهو أكبر مخيم في عرسال (يضمّ نحو 200 خيمة و188 عائلة). وكذلك الحال في مخيم السنابل القريب من أراضٍ تابعة لأهالي البلدة والذين باشروا تهديد اللاجئين بترحيلهم، إن لم يتمّ سحب مياه الصرف الصحي التي تسرّبت نحو ممتلكاتهم. فبلدة عرسال وضعها استثنائي بسبب العدد الكبير للّاجئين وتداخل المخيّمات في عقارات أهالي البلدة، ما يؤدّي إلى إلحاق الأذى بهم ووقوع الصدامات".
ويتحدث أبو مسعود عن "إصابات بين الأطفال في مخيّم الرحمن (97)، ومخيّم الحلواني (100)، ونقل مناشدة المشرف على مخيّم التقوى (107) صخر حورية، للمعنيّين بضرورة التدخّل لإيجاد الحلول الفعّالة، لا سيّما بعد تسجيل حالات إسهال وتقيّؤ، بينها حالات لأطفال، وقد تمّ نقل المرضى إلى المستشفيات".
ويقول: "أقدم اللاجئون أول من أمس على إغلاق الطريق أمام السيارات التابعة لمنظّمات الأمم المتحدة وشركائها، ومنعت من دخول عرسال بهدف الضغط على يونيسف للتراجع عن قرارها، إذ إنّه ومن خلال عرقلة وتأخير تنفيذ مشاريع هذه المنظمات، نتسبّب بتحميلها الشروط الجزائيّة التي تفرضها عليها الدول المانحة". ويسأل مسلماني: "أليس الأجدى خفض عدد موظّفي هذه المنظّمات والسيارات العاملة لديها ووقف المساعدات للّاجئين الذين عادوا إلى سورية وعددهم يقارب 2800 لاجئ. فالفساد مستشرٍ ولا يمكننا التغاضي عن حقّنا بالمياه. لذلك، سنتّجه نحو التصعيد".
وكان فريق "ناشطون" قد عمّم على المراكز الصحية في عرسال "رفع حالة الطوارئ لمتابعة ومعالجة الأمراض الجلدية التي تزداد وتنتشر بسرعة كبيرة"، محمّلاً يونيسف تبعات هذا القرار وتداعياته على الأطفال".
الأطفال أوائل الضحايا
بدوره، يطلق الطبيب المتخصّص في الأمراض الداخليّة في مركز "السلام الصحّي" في عرسال هاني المصري، صرخة دعا فيها "اللّاجئين إلى مراجعة المراكز الطبيّة بسبب انتشار حالات الركود الصفراوي داخل الكبد". وفي حديثه لـ"العربي الجديد"، يوثّق المصري كذلك انتشار حالات الإصابة بالقوباء (مرض جلدي شائع شديد العدوى يصيب الرضع والأطفال بشكل أساسي). وسُجّلت خلال أيامٍ قليلة أكثر من سبعين إصابة في الوجه والقدمين بسبب قلّة النظافة الشخصية من جرّاء نقص المياه، عدا عن إصابة آخرين بحساسيّة جلدية ومرض الشرى (الطفح الجلدي) والتهابات الأمعاء بمعدّل 5 حالات يوميّاً، ناهيك بما يقارب أربع حالات يوميّاً تعاني من مرض الربو، ولم تعد تكفينا أجهزة الأوكسجين".
ويحذّر من تفاقم "المخاطر الصحية، إذ لن نستطيع عندها تلبية حاجات المرضى من أدوية وأوكسجين وغيرها من المستلزمات الطبيّة، لا سيما وأنّ غالبية الإصابات تطاول الأطفال من عمر سنتين وحتى عشر سنوات. كما أنّ انتشار مرض الكوليرا في سورية ينذر بسهولة نقل العدوى إلى مخيّمات عرسال، البلدة الحدوديّة مع سورية".
الوضع مأساوي
ويرى مدير "فريق صوت اللاجئ السوري في لبنان" محمد صيبعة أنّ "تبرير القرار الجائر بحجّة نقص التمويل ليس سوى ذريعة. إنّها جريمة قتل موصوفة بحقّ أيّ لاجئ. فالمياه مورد حيويّ لا يمكن حرمان أيّ فردٍ منه". ويقول في حديثه لـ"العربي الجديد" أن الوضع الحالي "مأساوي، ولا يمكننا العيش من دون مياه، علماً أنّ المعدّلات السابقة لم تكن كافية، وقد بقي فقط الهواء الذي نتنشّقه بعيداً عن قراراتهم العبثيّة. فكيف يمكن لمنظّماتٍ دوليّة تنشط في المجال الإنساني والتوعية حول النظافة ولقاح كورونا أن تلجأ لقرارٍ مماثل بدلاً من زيادة خدماتها، وخصوصاً أنّنا سنشهد حالات استغلالٍ عديدة لناحية التلاعب بكلفة شراء مياه الشرب والخدمات وكلفة سحب مياه الجور الصحية".
ويسأل: "ألم يكن الأجدى بهم خفض رواتب فريق عملهم والأكلاف التشغيليّة، أم أنّ المطلوب دوماً أن يدفع اللاجئ الثمن؟"، مناشداً "الدول المانحة إيجاد حلٍّ سريعٍ، إمّا عبر تحقيق عودة آمنة وكريمة إلى سوريّة أو إعادة التوطين في إحدى الدول".
محاولات لاستحصال تمويل إضافيّ
وكانت منظّمة "العمل ضد الجوع"، أوضحت في بيانها أنّ "هذه الخدمات ليست مستدامة كحلّ طويل الأمد، وبسبب ذلك معظم المانحين اتّجهوا إلى خفض الميزانيّة المخصّصة لنقل المياه بالشاحنات وسحب الجور الصحية. وهو تخفيض يحدث في كلّ أنحاء لبنان ويؤثر للأسف على كلّ شركاء "اليونيسف". وقد بدأنا والجهات الفاعلة الإنسانيّة، العمل لإيجاد حلولٍ أكثر استدامة وشموليّة لفائدة المجتمعات السوريّة واللبنانيّة، وحلول فعّالة من حيث التكلفة لتلبية احتياجات المجتمع، من خلال السعي للحصول على تمويلٍ إضافيّ، لكن الجدول الزمني لذلك لا يزال غير مؤكّد". وتابع البيان: "ندرك أنّ الكميّات الجديدة تصل إلى الحد الأدنى من المعايير، وندرك مخاوف المستفيدين، لذلك نسعى لإعادة تحقيق المعايير السابقة بأقرب وقتٍ ممكن".
مساعٍ لزيادة خدمات مياه الشرب
وفي سياق متّصل، تواصل بعثة الهلال الأحمر القطري في لبنان توزيع مياه الشرب بكميّاتها المعتادة. ووفق مدير البرامج في البعثة إسلام كحيل، "يغطّي المشروع نحو 6 آلاف عائلة لاجئة بين مخيّمات عرسال وسعدنايل (البقاع الأوسط) بما معدّله 2.5 إلى 3 ليترات مياه شرب لكلّ فرد يوميّاً، ونسعى لزيادة التغطية وتحسين الخدمات ورفع المعايير لتوازي معيار إسفير (Sphere)". ويكشف في حديثه لـ "العربي الجديد" أنّهم يتابعون بدورهم إشكاليّة خفض "يونيسف" كميّة مياه الخدمات وسحب المياه الآسنة.
وفي بيانه، يرى مركز "وصول لحقوق الإنسان" (ACHR ) أنّ المياه وخدمات الصرف الصحي شرط أساسيّ لعيش حياة كريمة، واليوم بات اللاجئون يعيشون ضمن بيئة غير صحية، بالإضافة إلى أنّ الوصول للمياه يشكّل تحديّاً صعباً بالنسبة لمعظم اللاجئين".
ويلفت إلى أنّ "لخفض مخصّصات المياه أبعاداً صحية ومجتمعية داخل المخيم، الأمر الذي يؤدّي إلى تشكّل البرك المائية والمياه الملوّثة، ما يعرّض أهالي المخيمات والبلدات للإصابة بالأمراض المعدية والأوبئة". ويحثّ السلطات اللبنانية على "التعاون مع المنظّمات المعنية لتوفير حلول مستدامة من أجل الحفاظ على صحة وسلامة اللاجئين والمواطنين". كما يوصي "الجهات المانحة بالتركيز بشكل أكبر على توفير الحد الأدنى للمستوى المعيشي اللائق غير الموجود أصلاً".