ليس مستغرباً أن يكون لبنان قد شهد ارتفاعاً في عدد الجرائم خلال عام 2020، في ظل ما شهده من أزمات اقتصادية ومعيشية، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت وتفشي كورونا، بالإضافة إلى الاضطرابات النفسية
كان عام 2020 كابوساً بالنسبة إلى اللبنانيين. ومن الصعب نسيان كل ما شهدته البلاد من أزمات ومآسٍ وموت خلال العام الماضي، وقد انقلبت حياة كثيرين رأساً على عقب، لتصير الهجرة هدفاً نجح البعض في تحقيقه، في وقت ما زال آخرون يسعون إليه. عُدّ العام الماضي الأسوأ على صعيد العالم، فيما شهد لبنان أزمة اقتصادية في ظل تراجع سعر صرف الدولار، وأزمة معيشية وصحية وغير ذلك. أما الكارثة الأكبر، فكانت انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب الماضي.
وكان لافتاً عدد جرائم القتل التي سجّلها لبنان خلال 2020، بعضها فردية وأخرى منظمة، معظمها بدافع السرقة، في ظلّ تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد وارتفاع معدل البطالة والفقر.
وبحسب الشركة الدولية للمعلومات (شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية مستقلّة)، فإنّ عدد القتلى خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2020 ارتفع بنسبة 93 في المائة، مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2019. كذلك، سجلت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي 193 جريمة قتل، بدءاً من شهر يناير/ كانون الثاني 2020 وحتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ويرجح ارتكاب ثلاث جرائم قتل في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
ومن بين أبرز الجرائم التي هزت المجتمع اللبناني، جريمتان وقعتا الشهر الماضي، وجرى ربطهما بانفجار مرفأ بيروت. وتعددت الروايات غير الرسمية بشأنهما، وقد أشارت بعض المعلومات إلى أنه لا صلة بينهما وبين الانفجار. الجريمة الأولى هي مقتل العقيد المتقاعد في المديرية العامة للجمارك منير أبو رجيلي، وقد عثر عليه جثة في منزله الجبلي بعد تعرّضه لضربات بواسطة آلة حادّة على رأسه. والجريمة الثانية التي استخدم فيها مسدس كاتم للصوت، وقعت في بلدة الكحالة في محافظة جبل لبنان وأودت بحياة الشاب الثلاثيني جو بجاني، الأب لطفلتين، والذي يعمل في مجال التصوير، بالإضافة إلى وظيفته في شركة اتصالات.
كذلك، كان شهر إبريل/ نيسان الماضي مليئاً بالأحداث الأمنية والجرائم، منها مقتل طفلة سورية في الخامسة من عمرها على يد والدها، بعد تعرضها لضرب مبرح في مدينة طرابلس شمالاً، وإطلاق شاب عشريني النار على والدته وشقيقتيه، ما أدى إلى مقتل الأم وإحدى الشقيقتين في بلدة جديتا البقاعية. كذلك، ارتكب "م. ح." جريمة عرفت بـ "مجزرة بعقلين" راح ضحيتها 10 أشخاص من الجنسيتين اللبنانية والسورية، في بلدة عينبال في قضاء الشوف، من بينهم زوجته وشقيقاه. واعترف حينها بأنّ الدافع وراء جريمته كان "الشك" في خيانة زوجته له.
وفي 2 يونيو/ حزيران الماضي، وفي محلة نحلة البقاعية، قتلت شابة سورية من مواليد عام 1991 ابن عمتها انتقاماً منه لمحاولته اغتصابها قبل سنتين تقريباً، فدست له السم وطعنته بواسطة سكين في صدره وظهره.
وفي 10 يونيو/ حزيران الماضي، عثر على جثة المواطن إبراهيم علوية مواليد عام 1992 داخل مكان إقامته في محلة سوق الروشة في بيروت، واعترفت طليقته بأنّه بسبب وجود خلافات سابقة بينها وبين الضحية على حضانة طفلهما، أقدمت على تخدير المغدور وتكبيله بالسرير ثم طعنه 15 طعنة.
ومن الجرائم التي تداولتها وسائل الإعلام اللبنانية وتعددت الروايات بشأنها والتدخلات السياسية، جريمة مقتل الأخوين أحمد ومحمد عقل من بلدة المنية في شمال لبنان، وجريمة كفتون (قضاء الكورة - شمال لبنان)، التي راح ضحيتها ثلاثة شبان من أبناء البلدة، هم علاء فارس، وجورج سركيس، وفادي سركيس، بينما كانوا يحرسونها، التي تبعتها عمليات مداهمة واسعة أدت إلى مقتل عسكريين في الجيش اللبناني. كذلك، شهدت البلاد مقتل جوزيف طوق من مدينة بشري شمال لبنان، على يد عامل يحمل الجنسية السورية، ما أدى إلى حدوث احتقان كبير وتوتر أمني في البلدة، تبعته ردود فعل طاولت اللاجئين السوريين، ووصلت إلى حد طردهم من منازلهم.
في هذا الإطار، تقول المتخصّصة في علم الجريمة باميلا حنينه، لـ"العربي الجديد"، إنّ مرتكب أيّ جريمة يكون معلّقاً بشبكة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأمراض النفسية وعوامل أخرى يستحيل فصل بعضها عن بعض. وتتحدث عن بعض النظريات في علم الجريمة، منها "الإجهاد"، أي حين تفاقم الضغوط من المشاعر السلبية مثل الغضب والإحباط، ما قد يدفع البعض إلى خيارات يعتبرون أنها تساهم في تحسين أوضاعهم، ومنها ارتكاب الجريمة، عسى أن تساهم في الحد من التوتر، بالإضافة إلى عدم تحقيق الأهداف. بالتالي، إنّ ارتفاع نسبة جرائم القتل ليس مرتبطاً فقط بالعوامل الاقتصادية، بل أيضاً بالضغوط والاضطرابات النفسية والعقلية، من دون أن ننسى أن لبنان يعاني من أزمة انقطاع الأدوية، ما يعني أنّ توقف البعض عن تناول الأدوية، وإن لأيام قليلة، يزيد من أعمال العنف التي قد تصل إلى حدّ القتل.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك نظرية "التعلّم الاجتماعي" بحسب حنينه. وتوضح أنّها أساسية لفهم الجريمة والانحراف. مثلاً، يعيش البعض في بيئة تشهد مستوى عالياً من العنف، في وقت يفضل فيه آخرون الموت بدلاً من العار. وهناك من يرغب في تحقيق الأمن الذاتي أو تحقيق العدالة بنفسه، لأنّه يعتبر أنّ نظام العدالة في لبنان غائب. وهناك من ينتمي إلى فئة مهمشة أو طائفة مهمشة، وهؤلاء يعتبرون أنّ السياسة العقابية فاشلة في البلاد. من هنا، تكمن أهمية إعادة هيكلة النظام لتعزيز ثقة المواطن بالعدالة. تضيف أنّ هناك أيضاً النهج البيولوجي، لافتة إلى أنّ عشرة في المائة تقريباً من مرتكبي الجرائم يعانون من اضطرابات نفسية، ما قد يدفعهم إلى ارتكاب جرائم قتل، كذلك إنّ انفصال الوالدين، والاعتداءات الجنسية، والعنف الذي ارتفعت نسبته أيضاً خلال فترة الحجر المنزلي في إطار إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، كلّها أدت إلى ارتفاع عدد جرائم القتل.
من جهة أخرى، تشير حنينه إلى أنّ الوضع السياسي يعدّ محفزاً لارتكاب الجرائم، علماً أنّ جرائم القتل العادية يمكن معرفتها وكشف تفاصيلها. وتشدد على أهمية التركيز على شخصية الفرد والخيارات المتاحة أمامه، التي تجعله ميالاً لارتكاب الجرائم، ومنها السرقة التي لا يمكن فصلها في معظم الأحيان عن القتل. وهناك أمثلة على جرائم قتل حصلت نتيجة السرقة، التي تزيد نسبتها بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة والرغبة في كسب المال، وقد تقابلها عمليات ابتزاز قبل أن تتطور نتائجها.
وبحسب الشركة الدولية للمعلومات، ارتفع عدد جرائم السرقة خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2020 بنسبة 56.5 في المائة مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2019. كذلك، أعلنت قوى الأمن الداخلي ارتفاع نسبة جرائم الابتزاز، ولا سيما الجنسي.
وتتحدث حنينه عن الكاتب وليام لانغر الذي يربط الإجرام بالظروف الاقتصادية. ويقول إنّ الرأسمالية كانت أحد الأسباب المحتملة للجريمة. ومن لديهم ثأر تجاه المجتمع يلجأون إلى ارتكاب الجرائم. وترى أنّنا في لبنان نعيش نظاماً رأسمالياً لأنّ الموارد موجودة بيد كبار السياسيين الأغنياء في مقابل انعدام الطبقة الوسطى واتساع الطبقة الفقيرة، علماً أنّ الأغنياء يرتكبون جرائم قتل أيضاً، لافتة إلى أن هؤلاء يرتكبون جرائم الاتجار بالبشر وتبييض الأموال والجرائم الجنسية.
وتأسف حنينه لأنّ الأحكام الجزائية في لبنان فشلت حتى الساعة في مراقبة الجرائم غير العادية وغير التقليدية، أي المرتبطة مثلاً بتبييض الأموال والتهرب الضريبي. وتلفت إلى أنّه بات من الضروري وضع معايير تنظيمية وقائية حتى تتماشى العقوبة مع النمط المتغيّر للسلوك الإجرامي لدى الفرد، بالإضافة إلى أهمية وجود إحصائيات رسمية ودقيقة حول نسب الجرائم، وهي غير متوافرة في لبنان، بهدف إجراء دراسات معمّقة عن الجرائم وأسبابها ودوافع ارتكابها، ووضع خطط استباقية علاجية من أجل تفادي وقوع الجرائم في المستقبل، ولا سيما القتل.
ومع ربط هذه الكمية المتزايدة من العنف والجرائم بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضاً، يستقبل اللبنانيون عام 2021 مع استمرار التدهور في شتى القطاعات، وانعدام فرص الإنقاذ، ما يهدد البلاد بمزيد من العنف والجرائم.