خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كثيراً ما كان يقال: "نيّال (يا لحسن حظه) من لديه مرقد عنزة في لبنان"، لما كان يعيشه لبنان من عزّ ورخاء وهناء ومساحات خضراء. وكان قبلة للسياح والمصطافين من كل أنحاء العالم، وخصوصاً الدول العربية والخليجية. أما اليوم، وفي ظل ما يعانيه لبنان من أزمات، في ظل انهيار الليرة اللبنانية الأمر الذي خلق أزمة اقتصادية ومعيشية كبيرة، بالإضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي والمياه وغيرها من الأزمات، لجأ الكثير من اللبنانيين إلى البحث عن بدائل لحفظ الأطعمة، فكانت العودة إلى الجذور والتقاليد الموروثة عن الأهل والأجداد، والتي كانت تقتصر حتى الأمس القريب على أبناء القرى والأرياف، لا سيما المؤونة البلدية التي تبقى صالحة للأكل من موسم إلى آخر من دون الحاجة إلى وضعها في الثلاجة، ناهيك عن كونها صحية ومغذية وخالية من المواد الحافظة.
وتعد لبنة الماعز في طليعة "المونة" البلدية التي يشتهر بها لبنان، ومن أهم الوجبات الصباحية والمسائية بالنسبة للكثير من اللبنانيين، بسبب سلاسة ولذّة طعمها عدا عن كونها خفيفة على المعدة والجهاز الهضمي. حتى بات يقال: "نيّال من لديه رطل لبنة هذه الأيام" لكثرة الطلب عليها، مع الإشارة إلى أن الرطل هو مكيال يوازي كيلوغرامين ونصف الكيلوغرام من اللبنة.
وعلى الرغم من التمدد العمراني العشوائي والكتل الإسمنتية، ما زال هناك عشرات الآلاف من رؤوس الماعز الجردية التي تعتبر مورد رزق للكثير من رعاة الماشية والمزارعين. وتتوطّن الماعز الجردية بشكل أساسي عند السفوح الغربية لجبل الشيخ، شرقي لبنان، وفي الكثير من القرى والبلدات الجبلية.
يملك إسماعيل ناصر، وهو من بلدة كفرشوبا في منطقة العرقوب، في قضاء حاصبيا (جنوب لبنان)، نحو ألف رأس من الماعز وقد ورث هذه المهنة أبّاً عن جد. يتوجه يومياً إلى زريبة الماعز خاصته شرقي البلدة وأسفل موقع الاحتلال الإسرائيلي في رويسات العلم (مرتفعات كفرشوبا)، منذ ساعات الفجر الأولى لحلب الماعز قبل انطلاقها إلى الرعي في البراري، ويقول: "صحيح أن رعي الماعز عمل متعب ويتطلب تكاتف العائلة من صغيرها إلى كبيرها، إلّا أنه يشكل مصدر رزق وبركة"، مشيراً إلى أن "الماعز بطبيعتها لا تأكل سوى خلاصة الأعشاب التي تنتقيها من الطبيعة، وهذا ما يميّزها عن غيرها من الماشية الحلوب، ونصنع من حليبها اللبن واللبنة والجبنة والكشك. إلا أن الاحتلال الإسرائيلي في تلال كفرشوبا المحتلّة ينغص علينا عملنا، إذ يتربّص بنا ليل نهار"، ويشكو من غياب دعم الجهات المعنية في الدولة لتطوير هذه الثروة الحيوانية، ودعم الرعاة، أو أقلّه تأمين الأدوية اللازمة لمعالجتها.
طلب على "المكعزلة"
اليوم، ومع اشتداد الأزمات على اللبنانيين، زاد الطلب على لبنة الماعز التي تسمى "مكعزلة أو مدحرجة أو مكبكبة" وغيرها من التسميات، بحسب كل منطقة. ويقول أبو محمد: "زاد الطلب هذه الأيام على لبنة الماعز بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية وفي مقدمتها الأجبان والألبان، وانقطاع التيار الكهربائي. وما زال سعر لبنة الماعز أرخص بكثير من الألبان المعلّبة".
زوجته أم محمد تنتظره كل صباح ليأتي بالحليب حتى تغليه على موقد الحطب. وبعدما يبرد، تقوم بترويبه ليصبح لبناً ثم تضع اللبن في أكياس من الكتّان لبضعة أيام حتى يصبح لبنة، ليكون جاهزاً للبيع بحسب الطلب، وتعاونها جارتاها في "كعزلة" اللبنة ودحرجتها، فيما تساعدها ابنتها في وضع اللبنة المكعزلة في أوعية وسكب زيت الزيتون فوقها، وتقول إن "تحضير اللبنة وكعزلتها يتطلبان رشاقة وخبرة ومعرفة ونظافة بشكل أساسي. لذلك، يشتري البعض اللبنة ويقوم بكعزلتها ووضعها في أوعية مع زيت الزيتون. ومَنْ لا يعرف طريقة كعزلة اللبنة، نتولى تحضيرها له لتكون جاهزة للمونة والأكل، وخصوصاً لأولئك الذين يعيشون في بيروت والمدن الرئيسية".
أما أم محمد يحيى (85 عاماً)، فقد اعتادت منذ نعومة أظافرها على تحضير المونة البلدية لعائلتها وفي مقدمتها لبنة الماعز بسبب ديمومتها، وتشير إلى أن قرصاً من اللبنة على رغيف من الخبز الصاج يُشْبعُ الشخص، مشيرة إلى أن "اللبنة عمرها طويل من موسم إلى موسم، ونحن لا نشتري اللبنة المعلّبة ونعتمد على لبنة الماعز البلدية".
أما أم خالد غانم وشقيقتها، فتجدان صعوبة في تأمين اللبنة لعائلتيهما، وما أمّنتاه لا يكفي للموسم المقبل. وتقول أم خالد: "تربّينا على لبنة الماعز في قرانا. واليوم، في زمن الأزمات وغلاء الأسعار، وجدنا أن هذه اللبنة هي الأفضل كونها لا تحتاج إلى ثلاجة. كما أنها مفيدة صحياً وهي أفضل من باقي الأجبان والألبان المعلّبة".
فوائدها الصحية
وتقول أخصائية التغذية سماح غانم، لـ"العربي الجديد"، إن الدراسات التي أجريت أخيراً "تشير إلى أن حليب الماعز هو الأقرب لحليب الأم لناحية تركيبته، كما أنه يمكن لحليب الماعز القضاء على أنواع معينة من البكتيريا، مثل البكتيريا الإشريكية القولونية"، تضيف: "لبنة الماعز تحتوي على قيمة غذائية عالية جداً، كالأحماض الأمينية والدهون الصحية والفيتامينات والمعادن النادرة المهمة جداً لصحة الجسم. كما تحتوي على نسبة عالية من الكالسيوم مقارنة بباقي أنواع الحليب، بما يقارب 10 في المائة، وبالتالي هي غذاء جيد لصحة العظام والأسنان، كما أنها سهلة الهضم وخفيفة على المعدة، وتساهم في تخفيف التهابات المعدة بشكل واضح، وتعالج التهاب الفم الفيروسي، وتقوي مناعة الجسم لغناها بالمعادة النادرة مثل النحاس والسيلينيوم (أحد أنواع المعادن والعناصر الثانوية التي يحتاجها الجسم)، وتحسن صحة البشرة لاحتوائها على الفيتامينات واليود التي لها دور مهم في ترطيب البشرة".