مجازر مخيم جباليا| عائلة مسعود وحكاية شجرة الأسكنديا (15)

12 ديسمبر 2024
منازل مهدمة عقب قصف إسرائيلي مخيم جباليا، نوفمبر 2023 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعرضت عائلة مسعود لمأساة مروعة في مخيم جباليا بغزة، حيث دمرت غارة جوية إسرائيلية منزلهم، مما أدى إلى مقتل معظم أفراد العائلة، ونجا فقط محمد ومجد. يعيش الناجون في حزن عميق بعد فقدان أحبائهم.

- شجرة الأسكدنيا كانت جزءًا من ذكريات الطفولة الجميلة، واعتنت بها العائلة طوال العام. بعد المجزرة، لم تثمر الشجرة في صيف 2024، مما يعكس الحزن الذي خيم على العائلة والحي.

- تركت المجزرة أثرًا نفسيًا عميقًا على الناجين، حيث يعيشون في حالة اكتئاب وصدمة. الشجرة التي لم تثمر أصبحت رمزًا للحزن والفقدان.

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.


أذكر أن شجرة الأسكدنيا دائمة الخضرة، هي التي كانت تفصل جدار منزلنا عن منزل عائلة صبحي مسعود حين كنا نقطن في حي السنايدة "بلوك 6" في مخيم جباليا، وهي شجرة فاكهة تعرف علمياً باسم "Eriobotrya japonica". فروعها كانت ملتصقة بنافذة غرفة والدي؛ كانت ثمارها تنضج في الصيف. في طفولتنا، كنت أنا وإخوتي نفتح النافذة ونمد أيدينا الصغيرة لنقطف ثمارها بسهولة، نحصل على فاكهة صيفية مذاقها لذيذ جداً.

كانت عائلة مسعود بكل أفرادها تتناوب على الاعتناء بهذه الشجرة طوال العام، لا أعرف كم عمرها أو طولها، لكن مقارنة بحجمي الصغير كنت أراها عملاقة وحجم الثمرة يقارب كف يدي.

بلال فادي مسعود (العربي الجديد)
بلال فادي مسعود (العربي الجديد)

عائلة مسعود من بلدة دير سنيد المحتلة، كانت تعيش في منزل مكون من طابقين غير الأرضي؛ وهو من بين المنازل القلة المسقوفة بالباطون في ذلك الحي. أكثر ما يميز تلك العائلة ذكاؤها الاجتماعي، سريعون جداً في نسج العلاقات مع من حولهم. في الطابق الأرضي كان يعيش شقيقهم الأصغر محمد (39 عاماً) برفقة زوجته وابنة عمه نعيمة (35 عاماً)، وهي بالمناسبة شقيقة ميرفت مسعود، التي نفذت عملية استشهادية عام 2006 في محيط معبر "إيرز" شمالي قطاع غزة؛ فيما يسكن في القسم الآخر من الطابق شقيقتهم منار (36 عاماً). محمد كان يعمل موظفاً في السلطة الفلسطينية، ولديه علاقات واسعة مع أبناء المخيم، على مدار 12 عاماً من الزواج كان يحلم بإنجاب طفل، أكثر من محاولة عملية زراعة لم تنجح..

أما في الطابق الأول كان يقطن شقيقه الأكبر فادي (43 عاماً)، وزوجته نبيلة (38 عاماً)، وأبناؤهم الأربعة بلال، محمد، صبحي، سامح. بلال (23 عاماً) الابن الأكبر لفادي، يعمل أعمالاً حرة، ويعد أحد ثوار مسيرة العودة الكبرى التي انطلقت في مارس/آذار عام 2018، التي انطلقت للمطالبة برفع الحصار عن قطاع غزة.

الشهيد صبحي فادي مسعود (العربي الجديد)
الشهيد صبحي فادي مسعود (العربي الجديد)

أما الابن الأصغر صبحي (18 عاماً)، فيصنف من أبرز اللاعبين الصاعدين لكرة القدم في مخيم جباليا، كان يحتل مركز الجناح الأيسر في الفريق الثاني لنادي خدمات جباليا، تميز بسرعته الفائقة. كان يحلم بأن يمثل المنتخب الوطني لكرة القدم، ويلعب لأحد الأندية الأوروبية، مثله الأعلى في اللعبة، اللاعب الفرنسي كليان مبابي مهاجم نادي ريال مدريد.

الشهيد محمد فادي مسعود (العربي الجديد)
الشهيد محمد فادي مسعود (العربي الجديد)

ثالهم محمد (12 عاماً)، صاحب حنجرة ذهبية، "المطرب" كما تلقبه العائلة، يتمتع بشخصية جريئة، شارك في عدة مسابقات بالغناء بالمحافل الوطنية. وأصغرهم سامح (عشرة أعوام).

أما الطابق الثاني والأخير، فقد كان يعيش فيه شقيق العائلة الأكبر شادي (46 عاماً) وزوجته وابنة عمه نسرين (42 عاماً)، لديهم من الأبناء أربعة، ملك ومرح ومحمد ومجد.

محمد الناجي مع أمه الشهيدة نسرين (العربي الجديد)
محمد الناجي مع أمه الشهيدة نسرين (العربي الجديد)

كانت عائلة شادي تجهز نفسها لحفل زفاف البنت الكبرى ملك (23 عاماً) المخطوبة من أحد أقارب العائلة، محمود مسعود (25 عاماً)، العروس أنهت دراسة التعليم الأساسي في جامعة القدس المفتوحة. كان حفل الزفاف مقرراً في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولكن مع حرب الإبادة جرى تأجيله حتى إشعار آخر.

الشهيدة ملك مع خطيبها محمد (العربي الجديد)
الشهيدة ملك مع خطيبها محمد (العربي الجديد)

عصر يوم 31 أكتوبر 2023، كان جميع هؤلاء في المنزل، باستثناء محمد ابن شادي (22 عاماً)، الذي خرج في مشوار إلى السوق المركزي للمخيم، والزوجين فادي ونبيلة أيضاً، وفي أقل من لحظة تحول المنزل المكون من ثلاثة طوابق، إلى قبر كبير بعمق أربعة أمتار تحت الأرض حين ألقى سرب من الطائرات قرابة ست قنابل كبيرة على حي السنايدة، لتكون تلك العائلة من عشرات العوائل التي شطبت من السجل المدني.

عثر على بعض جثامين عائلة مسعود ودفنوا جميعاً في قبر كبير، وأغلبهم لم يجر العثور عليهم.

 الشقيقان الناجيان محمد ومجد شادي مسعود (العربي الجديد)
الشقيقان الناجيان محمد ومجد شادي مسعود (العربي الجديد)

من نجا إلى جانب محمد الذي كان خارج المنزل، هو شقيقه مجد (16 عاماً)، جرى انتشال الفتى بعدما قذفته الصواريخ لأمتار من المنزل، تعرض لكسور في القدم؛ تعافى بشكل تدريجي وهو الآن يتمتع بصحة جيدة، لكنه محطم نفسياً بعدما فقد جميع عائلته. والحال نفسه يعيشه الزوجان فادي ونبيلة اللذان فقدا أبناءهما الأربعة؛ وهما نازحان في إحدى الخيام، يواجهان موجات الاكتئاب وبرد الشتاء ومرارة الفقدان.

الشهداء الاخوة الأربعة من عائلة مسعود (العربي الجديد)
الشهداء الإخوة الأربعة من عائلة مسعود (العربي الجديد)

في حوار قصير مع مجد، أحد شهود المجزرة، يقول:" كانت أمي تجهز لنا طعام الغداء وننتظر عودة محمد لنجتمع على سفرة الطعام، فجأة وجدت نفسي في المشفى، أخبروني بأنني كنت غائباً عن الوعي لمدة يومين". مجد ومحمد لم يتقبلا فكرة أنه لم يبق أحد من العائلة. يوضح محمد: "قبل الإبادة كنا نستعد لفرحة أختي، الآن العزاء فينا ممتد، ويبدو أن الفرحة ستظل محذوفة من قاموسنا".

فادي مسعود والد الشهداء الأربعة (العربي الجديد)
فادي مسعود والد الشهداء الأربعة (العربي الجديد)

نجا محمد ومجد من المجزرة، وقالا لي إن شجرة "الأسكدنيا"، ما زالت ثابتة، رغم تعرض جزء كبير من فروعها للكسر، لكن في صيف 2024 أي بعد المجزرة بنحو سبعة شهور، لم تثمر تلك الشجرة. يختم محمد حديثه: "ربما لن تثمر الشجرة، لأنها حزينة على فراق عائلتي، إنها فرد من عائلتنا، تشعر بنا ونشعر بها".

الشهيدة مرح شادي مسعود (العربي الجديد)
الشهيدة مرح شادي مسعود (العربي الجديد)

كلام محمد ذكّرني بمنزلنا في بلوك "7"، كانت لدينا شجرة جوافة زرعها والدي قبل نحو 25 عاماً، كانت مثمرة وخصبة جداً، كل من في المخيم أكل من ثمارها، وبعد أسبوعين من ارتقائه شهيداً، أي في منتصف مايو/أيار 2024، سقطت كل الأوراق عنها، جاء خريفها باكراً. أحد الأصدقاء قال لي: "إن الأشجار تموت بموت أصحابها".

شادي صبحي مسعود (العربي الجديد)
شادي صبحي مسعود (العربي الجديد)