لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه، أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم.
ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء، إذ للأسبوع الرابع ما زالت إسرائيل تفرض حصاراً عسكرياً بحراً وجواً وبرّاً بمختلف الأسلحة الثقيلة والمتطورة والمستحدثة على المخيم أو "المعسكر" كما نحبّ أن نسميه نحن أبناءه.
صوت ابن مخيم جباليا: شاهد وابن شهيد
ولأني ابن مخيم جباليا، لن أتخذ وضعية الكاتب أو المختص بالقصة الصحافية أو الإنسانية، إنما سأكتفي بأن أكون شاهداً وابن شهيد ارتقى في منزله في مايو/أيار المنصرم، إبّان الاجتياح الثاني للمخيم، رافضاً الخروج منه، لذلك فليعذرني الجميع في إسقاط شخصي على أغلب القصص الذي ستُنشر تباعاً.
مخيم جباليا المُباد أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة. ويقع إلى الشمال بالقرب من قرية تحمل الاسم ذاته. وفي أعقاب حرب 1948، استقر اللاجئون فيه، معظمهم كانوا قد فروا من القرى الواقعة جنوب فلسطين. واليوم، فإن حوالي 119.540 لاجئاً مسجلاً يعيشون في هذا الفضاء الذي يغطّي مساحة من الأرض تبلغ فقط 1.4 كيلومتر مربع، بحسب الموقع الرسمي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا".
حي السنايدة... أكبر مجزرة
في عمق المخيم، أعيش في شارع يطلق عليه اسم شارع الهوجا نسبة لكون أغلب سكانه من بلدة هوج المحتلة، على ضفته الجنوبية بلوك 6، أو ما يعرف بحي السنايدة لأن أغلب عوائله من بلدة دير سنيد المحتلة، هناك تقريباً 40 عائلة، منها عائلة مسعود وأبو القمصان وحجازي وأبو نصر وخضير والبهنساوي وعسكر، تربطهم صلة قرابة ونسب.
في عام 1993 اشترى والدي قطعة أرض صغيرة في ذلك الحي وبنى منزلاً جميلاً، عشنا فيه تقريباً لأواخر عام 1998. تصميمه لا يكاد يختلف عن باقي المنازل الموجودة في الحي، معظمها مغطاة بالقرميد تشبه بعضها، وأكثر منزل يبعد عن الثاني حوالي نصف متر. خمس سنوات كانت كافية لأحفظ كل الحي بتفاصيله، وألوان أبوابه البسيطة، وهندسة نوافذه، وجميع أسماء العجائز والنساء أيضاً، حتى أن لكل عائلة رائحة مميزة تكاد تعرفها من أثاثها وملابسها، ولكل زقاق حكاية التصقت بذاكرتي.
ولا أبالغ أيضاً إن قلت إنّ كل وجوه ذلك الحي بصغاره وكباره وعوائله، أستطيع أن أميزها كشريط مصور أمامي ببطء وبسرعة، أتحكم فيه بحسب حالتي النفسية. فذلك المكان كان أول وحدة تخزين لذاكرتي، إنه ببساطة جرعة حب لطفل لم يبلغ الثمانية أعوام.
عصر يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أصبحت تلك العوائل الأربعون مجرد ذكرى من الماضي، حين نفذت الطائرات الحربية الإسرائيلية سلسلة أحزمة نارية في حي السنايدة الذي تقارب مساحته ملعب كرة قدم. وذكرت الكوادر الطبية في شمال غزة أن عدد الشهداء تجاوز 600 شخص. في لحظة لم تتعد الدقيقة لم يبق أحد. منهم من استخرجت جثة وأغلبهم ما زال مفقوداً.
بعد شهرين من انقطاع الاتصال، وصف لي صديقي محمد عبد الرحمن مصمم الغرافيك وابن مخيم جباليا المشهد بهذه العبارة: "بعد ستين يوماً، لا تستطيع دخول حي السنايدة من شدة رائحة الجثث، أقارب الشهداء ينتظرون زوالها لتتبع أماكن الجثث المفقودة".
في ذلك الحي، كان المزارع، والطبيب، والمهندسة، والطالب الجامعي، وسائق التاكسي، والخباز، والمُدرسة، والممرضة، وإمام المسجد، والصياد، وفيه أيضاً مغني راب واعد، ولاعب كرة قدم صاعد، وموظف ومدير مدرسة وعاطل عن العمل، إنه باختصار مجتمع متكامل، لا مجرد أرقام. وسأكتب عنه وعن قصص صمود أهاليه وشهدائه رغم أن شعوراً بخذلان دمائهم لا يكاد يفارقني، إذ مر عام كامل على تلك الإبادة ولم تخرج قصة أو حكاية عن أي عائلة من ذلك الحي المشطوب من السجل.
لم يبق منهم سوى الذكرى
في أواخر 1998، انتقلنا إلى المربع الملاصق لبلوك 6، تحديداً بلوك 7، ويقع على الضفة الثانية من شارع الهوجا، أي الجهة الشمالية، أراد أبي العودة لمنزل والده الذي بني في عام 1956، تم ترميمه وأصبح جاهزاً للسكن، عشت ما تبقى من طفولتي ومراهقتي وشبابي هناك.
هذا الحي عبارة عن خليط من الأسر، فيه 35 منزلاً أو عائلة، منها عوائل تعود لبلدة برير المحتلة، وبئر السبع، ومن عسقلان أو المجدل، من بينها عائلة سالم، أبو راشد، عقل، النجار، العجرمي، الشعراوي، لبد، أبو شرخ، أبو العيش، والقائمة تطول.
في اليوم التالي من مجزرة حي السنايدة، ارتكبت إسرائيل مجزرة مشابهة في الحي الذي أسكنه ولكن بصورة مصغرة، استشهد فيها 150 شخصاً، ومُسحت سبع عوائل من السجل المدني، خاصة عائلة سالم التي لم يبق منها إلا الجار الشاب موسى سالم، إذ قدر عدد الشهداء بـ65 شهيداً في منزل واحد مكون من عدة طوابق.
يومها نجت عائلتي بأعجوبة، نصف الحي شهداء والنصف الآخر إما مصاب أو مصدوم بعد خروجهم من بين الأنقاض أحياء. قبل أسبوع تقريباً، أي في نهاية أكتوبر الماضي، قضت إسرائيل على الجزء الثاني من الحي الذي أسكن فيه، واستشهد من تبقى على قيد الحياة في المجزرة الأولى، خاصة عائلة أبو راشد التي لم يعثر إلى الآن على جثث أفرادها ووصل عدد الشهداء إلى 35 شهيداً.
مسح الجيش الإسرائيلي الحي الذي أسكن فيه على دفعتين خلال عام، جميعهم شهداء، ولم يبق إلا قليلون جداً هاجروا قبل العدوان، وعائلتان نزحتا إلى جنوب القطاع.
حال هذا الحي لا يكاد يختلف عن السنايدة بالنسبة لي، لكن لم يبق لي شيء سوى ذاكرتي، ولذلك أسابق الزمن في توثيق ما يمكن توثيقه قبل أن تخونني. سأكتب دون التقيد بمخطط، ولكن سأتبع قاعدة الأقرب ثم الأقرب بالنسبة لي، دون الالتزام بتواريخ استشهادهم. فلتعذروني مرة أخرى وسأباشر بقصة والدي الشهيد خليل أبو الطرابيش. كما أنني سأوثق قصص شهداء من أصدقائي وأبناء جيلي الذين ارتقى أغلبهم، وكذلك من الأحياء الأخرى، مثل حي العلمي، والسكة، وحي بركة أبو راشد، وحي مسجد التوبة ومنطقة الفاخورة.
وبجانب ذلك سأوثق حكايات شباب العبور الأول الذين عاشوا بيننا بسطاء، وأصدقاء وجيران، وليس حيوانات بشرية كما وصفتهم إسرائيل. قد لا أوفق في كتابة أغلب القصص أو ينقصها الكثير، لكن عزائي على الأقل أن تكون مدخلاً للكتابة عن أصوات من جباليا حين تهدأ نيران هذه الإبادة، تحركني في ذلك رسالة صادقة من الشهداء في مختلف مناطق غزة: "ضلكم اكتبوا عنا.. ما تنسونا.. احنا مش أرقام .. احنا عشاق الحياة".