مجازر مخيم جباليا| فاجعة عائلة ريان المنسية (8)

04 ديسمبر 2024
دمار وركام بعد غارات إسرائيلية على مخيم جباليا، 31 أكتوبر 2023 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي الكاتب قصصاً مؤلمة عن المجازر الإسرائيلية في مخيم جباليا بقطاع غزة، حيث تم محو مئات الشهداء من السجل المدني، ويعبر عن خيبة أمله في تأخر توثيق هذه الأحداث.
- تعرضت عائلة ريان لمجزرة مروعة في 31 أكتوبر 2023، حيث فقد معظم أفرادها حياتهم جراء قصف جوي إسرائيلي، ولم ينجُ سوى ثلاثة أفراد كانوا خارج المنزل.
- عاش الناجون في خيمة نزوح، بينما بحث كريم عن جثث عائلته لدفنهم، معبراً عن ارتباطه الروحي بوالده وشقيقه، ومحاولة الطفل نزار التغلب على حزنه.

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.


حين ضاق المنزل بعائلة ريان الفلسطينية في مخيم جباليا بقطاع غزة، قرر الأب رائد ريان (54 عاماً) وضع خطة تتيح له جمع ما يكفي من المال لشراء منزل يتّسع لعائلته المؤلفة من 12 شخصاً. عاش في البيت الصغير البسيط الذي لم تتجاوز مساحته 100 متر، رائد وزوجته هناء (50 عاماً) في غرفة، والابن الأكبر سائد (32 عاماً) وزوجته إيمان حميدان (27 عاماً) وأطفالهم الثلاثة هناء (تسع سنوات) رائد (ست سنوات)، ومحمود (ثلاث سنوات) في غرفة.

وفي الغرفة الثالثة كان يعيش كريم (29 عاماً) وزوجته ريهام (25 عاماً) وطفلهما كرم (عام ونصف). أما ماهر الممرض (23 عاماً) والطالبة الجامعية جنة (18 عاماً) ونزار (14 عاماً) فكانوا ينامون في الصالون الصغير المخصص أيضا للضيافة.

هذا التوزيع العائلي الذي يعكس بساطة العيش ليس حالة نادرة، بل يشمل غالبية أهالي سكان مخيم جباليا الذين يعيشون وفق هذا النمط منذ أن نشأت المخيمات في خمسينيات القرن الماضي. وتعكس هذه الحالة الصورة الدقيقة لواقع العائلات الكادحة العفيفة في المخيم في ظل الحصار الإسرائيلي وانعدام الفرص، علماً أن نسبة من يعيشون على السلة الغذائية التي تقدمها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) تجاوزت 80%، فيما فاقت نسبة البطالة 71% في العقد الأخير.

وأمام هذه التعقيدات والتحديات، نفذ الأب رائد خطّته بمساعدة أبنائه الكبار، وعملوا ليلَ نهارٍ في مهن البناء بهدف توفير مبلغ مالي يسمح لهم بشراء منزل كبير يكفي الجميع. وخلال ثلاثة أعوام اكتفوا بجدول محصور من النوم إلى العمل، وجمعوا المال الكافي لشراء منزل واسع في حي السنايدة "بلوك 6" الواقع في قلب المخيم. وهكذا نجحت خطة الوالد في مايو/ أيار 2023، أي قبل خمسة أشهر من حرب الإبادة الإسرائيلية السافرة على القطاع والحملة العسكرية المستمرة على مخيم جباليا.

احتفلت العائلة المنغلقة على نفسها بهذا الإنجاز، وبدأ كل شخص فيها يشعر بمساحة من خصوصيته، لكن هذا الفرح لم يدم طويلاً. ومع بداية الإبادة وكثافة الأحزمة النارية التي انهالت على أطراف المخيم، لجأت الأخت الكبيرة أنوار (33 عاماً)، وهي متزوجة تعيش في منطقة الفالوجا غربي مخيم جباليا، مع أطفالها الأربعة إسراء، غسان، مجاهد، ماسة، إلى منزل والدها الجديد. ومن بين التعريفات البسيطة للحزام الناري إطلاق نحو 50 صاروخاً من سرب طائرات حربية خلال مدة زمنية لا تتعدى نصف دقيقة على مساحة 500 متر.

ظهر 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 كان أفراد العائلة متحصنين في غرفة واحدة في المنزل الجديد، تشغل نفسها بعدة حوارات عن القلق والدفء والضحك. "كان يوماً غريباً اختلطت فيه كل المشاعر"، هكذا يصف كريم هذه الجلسة. وعند الساعة الثانية والنصف عصراً، ذهبت زوجته إلى منزل عائلتها في الحي المقابل لإحضار أشياء لرضيعها كرم، فيما شعر نزار بملل من المكوث في المنزل وذهب إلى بيت جده الذي يبعد خمس دقائق، أما كريم فذهب للبحث عن مصدر للتيار كهربائي من أجل تعبئة بطارية هاتفه المحمول، فيما لزم باقي أفراد العائلة المنزل.

الشهيد الأب رائد ريان (العربي الجديد)
الشهيد الأب رائد ريان (العربي الجديد)

لم يستطع كريم تعبئة هاتفه، وخلال عودته إلى المنزل أسقطت الطائرات الحربية ست قنابل كبيرة على الحي الذي تسكن فيه عائلته، وحصلت المذبحة الكبرى، وحين انقشع غبار البارود، وتوقفت الشظايا والأتربة والحجارة المتطايرة، ركض كريم مع أبناء المخيم إلى مكان المذبحة، ويقول: "المدة الفاصلة بيني وبين عائلتي كانت أربع دقائق تقريباً. أعطيت طفلي لأمي، وخرجت وهم يتحدثون ويضحكون لطرد خوفهم فعدت ولم أجد سوى حفرة كبيرة. غبت عن عائلتي دقائق ووجدتهم جثثاً. أمر لا أجد له أي تعبير. حتى في أغرب الكوابيس لا يحصل ذلك".

الشهيد سائد مع طفله الشهيد رائد (العربي الجديد)
الشهيد سائد مع أطفاله الشهداء (العربي الجديد)

حصيلة الشهداء هي الأب رائد والأم والابن الأكبر سائد وزوجته إيمان حميدان والأبناء الثلاثة هناء ورائد ومحمود، والشقيقة الكبرى أنوار وأطفالها إسراء وغسان ومجاهد والرضيعة ماسة والرضيع كرم كريم والشاب ماهر والشابة جنة. أما الناجون فثلاثة خرجوا من المنزل قبل دقائق، وهم كريم وزوجته والصغير نزار، وهم يعيشون الآن في خيمة نزوح وسط ملعب اليرموك وسط غزة. وفي شأن زوج الشهيدة أنوار الشاب محمد (38 عاماً) انقطعت أخباره بعد المجزرة.

الشهيد الممرض ماهر ريان (العربي الجديد)
الشهيد الممرض ماهر ريان (العربي الجديد)

بحث كريم أربعة أيام عن جثث عائلته، حفر ونبش ليلَ نهارٍ بين الركام. لم يكل أو يمل حتى وصل إليهم، ووارى جثامينهم الثرى. وضع والديه وشقيقه ماهر وشقيقته جنة في قبر، وشقيقه وزوجته وأطفالهما في قبر، وأخته أنوار وأطفالها في قبر.

كان لكل شخص في عائلة ريان طبعه الخاص وأحلامه المجهضة، لكنهم تقاسموا عدة صفات من بينها الهدوء وقلة الاختلاط في المحيط العام. لقد كانوا من العائلات التي عاشت في صمت ورحلت في صمت. الشهيد الطبيب ماهر كان متفوقاً في دراسته وعمله، وحصل على شهادة التميز في دراسة التمريض، وعمل في المستشفى الإندونيسي قبل رحيله. فيما شقيقته جنة كانت تدرس الرياضيات في جامعة الأقصى. أما الناجي كريم فيرى أن شخصيته قريبة جداً من والده وشقيقه الكبير سائد. ويقول: "كنت أشعر بأننا روح واحدة مقسّمة في ثلاثة أجساد".

الشقيقان الناجيان كريم ونزار ريان (العربي الجديد)
الشقيقان الناجيان كريم ونزار ريان (العربي الجديد)

وعن فقد الأم قال الطفل نزار: "في الأسابيع الأولى لم أكن أعرف طعم النوم. وحين غلبني النوم يوماً زارتني أمي، ومسحت على رأسي وكانت مبتسمة، وأخبرتني أنها ستزورني مجدداً،  لكن شرط أن أتوقف عن البكاء. ومنذ تلك اللحظة أحاول أن أمنع نفسي عن البكاء".