- على الرغم من الأمل والتحول الإيجابي، عاد الاحتلال الإسرائيلي لتدمير ما بني، مستهدفاً المناطق الزراعية والبنى التحتية، مما يعيد مخاوف إقامة المستوطنات من جديد.
- الغزيون يحافظون على الأمل رغم الدمار، معتبرين المناطق المحررة مصدراً للأمل والحياة الكريمة، لكن يبقى القلق من مستقبل قطاع غزة تحت تهديد الاحتلال.
انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من مناطق "محررات" غزة عام 2005، وكانت المستوطنات مُقامة في نقاط تفصل محافظات قطاع غزة إلى ثلاثة أقسام. تلا الانسحاب إعادة إعمارها من قبل الغزيين، وقد أنشأوا فيها أراضي زراعية بشكل أساسي، بالإضافة إلى مشاريع تعليمية ومبان جامعية وملاعب، ليدمر القصف الإسرائيلي ما عمره الغزيون.
خلال العدوان الحالي، دمر الاحتلال تلك المناطق وما فيها من مشاريع زراعية ومساكن وجامعات والكثير من مقومات الحياة بشكلٍ مباشر، وخصوصاً في منطقة المحررات التي أطلق الغزيون عليها هذا الاسم. وتقع تلك المناطق في وسط قطاع غزة وأقصى شمال القطاع وجنوبه وغرب مدينة خانيونس.
وأنشئت المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 وحتى 1994، حين بدأت السلطة الفلسطينية دخوله بموجب اتفاق أوسلو وتطبيق الحكم الذاتي الفلسطيني في غزة وأريحا. وخرجت قوات الاحتلال من قطاع غزة وتم إخلاء المستوطنات والمستوطنين (حوالي 8500) في 12 سبتمبر/أيلول 2005.
أحد أصحاب المزارع ويدعى عمران الأسطل (56 عاماً) كان قد حصل على أرض مساحتها 8 دونمات في إطار عقد إيجار من قبل وزارة الزراعة، على أن يساهم في تشغيل وخلق مشاريع ريادية للأسر الفقيرة والمزارعين. وتقع الأرض الزراعية التي حصل عليها داخل منطقة المحررات غرب مدينة خانيونس، والتي كانت معروفة باسم غوش قطيف. والأخيرة عبارة عن تجمع مستوطنات سيطر على قلب قطاع غزة، وامتد من حدود رفح في الجنوب حتى حدود دير البلح في الشمال، وسيطرت المستوطنة على الأرض الفاصلة بين مخيم خانيونس والبحر الأبيض المتوسط. إلا أن الاحتلال الإسرائيلي دمر مزرعته التي اعتاد أن يزرع فيها الخضار الموسمية، والتي كانت تشكل مصدر رزق لعائلته.
خسر الأسطل أرضه الزراعية بعدما أحرقها الاحتلال الإسرائيلي جراء إطلاقه أربع قذائف. كما دمّر المناطق المحيطة بالأراضي، وقد أكد الاحتلال إطلاقه الكثير من القنابل على المنطقة وكأنه يمهد لاحتلالها وإقامة المستوطنات فيها مجدداً، وسط أخبار تظهر رغبة مستوطنين في العودة إلى مستوطنات قطاع غزة.
ويقول الأسطل لـ "العربي الجديد": "كانت هذه المنطقة مرعبة قبل عام 2005"، مشيراً إلى التظاهرات التي كانت تقع قرب السلك الفاصل وحاجز لجنود الاحتلال، حيث "كان يتم اعتقال الكثير من الشبان. لم يكن الحال مختلفاً عن حال أهالي الضفة الغربية. لكن بعد عام 2005، وجدنا أن الاحتلال كان يسيطر على المناطق الطبيعية الأجمل في قطاع غزة، وكان المستوطنون قد أقاموا مساكن لهم، وكانوا يزرعون الأراضي مستغلين المياه الجوفية في المنطقة". يضيف الأسطل في حديثه لـ "العربي الجديد"، أن "المنطقة شهدت بناء الكثير من البيوت والاهتمام بالأراضي الزراعية وإنشاء مدينة ألعاب معروفة باسم أصداء وغيرها الكثير. كانت المستوطنات تخنق غزة. بعد تفكيكها، تنفس الغزيون ووجودوا في هذه المناطق مساحات جميلة. لكن الاحتلال أعاد هدم المنازل والمزارع والملاعب الخضراء الصغيرة".
لا يزال الأسطل يتذكر الإخلاء الإسرائيلي للمستوطنات. في ذلك اليوم، دخل الناس بسرعة لتفقد المناطق وإزالة الأعلام الإسرائيلية وكل ما يخص المستوطنين الذين نهبوا خيرات الغزيين. يشار إلى أن المستوطنات كانت قد أقيمت في المناطق التي تتوفر فيها المياه والمطلة على شاطئ البحر والمواقع الأثرية التي تولت أمرها وزارة السياحة والآثار الفلسطينية. وبعد الانسحاب، أُنشئت الكثير من المشاريع والمساكن والملاعب الرياضية ومدينة ترفيهية. وفي ظل وفرة الأراضي الزراعية في مناطق المحررات، كانت تُصدّر الخضار إلى الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل خلال السنوات الأخيرة. وتُعد أراضي المحررات سلة غذائية مهمة تُغطي محاصيلها الزراعية (20 ـ 30 في المائة) من احتياجات السكان، كما تحتوي على مزارع لإنتاج اللحوم البيضاء. وبحسب الإحصاءات المنشورة عن سلطة الأراضي الفلسطينية، فقد بلغت مساحة المحررات 15 ألف دونم، موزعة على 21 مستوطنة كانت تتركز بشكل أساسي في الشريط الساحلي لقطاع غزة منذ عام 1967.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي من مجمع غوش قطيف، أنشأت وزارة التربية والتعليم في قطاع غزة مبنى جامعة الأقصى الحكومية غرب مدينة خانيونس. وخلال العدوان الحالي، لجأ إليها أكثر من 30 ألف نازح قبل الهجوم عليها في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وإخلاء المنطقة لتسهيل عملياتها العسكرية واحتلال المناطق والتوغل الإسرائيلي فيها وانتشار القناصة.
في هذا السياق، يقول معتز أبو سمرة (36 عاماً) الذي كان يقيم على مقربة من الجامعة في منزل العائلة، إن الحياة كانت جميلة في المنطقة، إلا أن الاحتلال دمر ذلك الجمال، علماً أن هذه المناطق كانت بمثابة الأمل الأخير للنازحين في مدينة خانيونس. وفي النهاية، ارتكب الاحتلال مجازر فيها وطلب من السكان الإخلاء. يقول أبو سمرة لـ "العربي الجديد": "أتذكر فترة مراهقتي والقيود التي كانت تؤثر على وصولنا إلى بعض المناطق. بعد الانسحاب، تنفسنا الصعداء واشترينا أرضاً زرعناها وعمرنا منزلاً. على الرغم من الحصار والدمار كنا نعيش حياة جيدة، لكن الاحتلال دمر في هذه الحرب كل شيء، كأنه يريد القول لنا إننا سنعود إلى المستوطنات".
أما وسط قطاع غزة، وخصوصاً في المنطقة الفاصلة بين وادي غزة وقرية المغراقة، فكانت مستوطنة نتساريم التي أقيمت عام 1972، وكان المستوطنون، وهم من اليهود المتشددين، يعتبرونها أهم مستوطنة ونقطة سيطرة إستراتيجية كونها تشرف على مدينة غزة وشواطئها ومينائها، وكان هناك رفض للانسحاب منها من قبل اليمين المتطرف.
بعد الانسحاب الإسرائيلي منها، أقام الغزيون فيها جامعات ومحاكم وبيوتا وزرعوا أراضيها. وقبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كانت تعتبر من أهم مناطق قطاع غزة، لكن الاحتلال الإسرائيلي دمر كل شيء في المنطقة كما يقول محمد أبو حجر (34 عاماً) وهو من سكان قرية المغراقة وقد نزح إلى مخيم النصيرات.
يقول إن الاحتلال الإسرائيلي دمر مباني جامعية في المنطقة وأحرق المنازل خلف جامعتي الأزهر وفلسطين على وجه التحديد. ويقول لـ "العربي الجديد": "عرفت هذه المنطقة حين كنت طفلاً خلال فترة الانسحاب الإسرائيلي منها. كانت هادئة وجميلة ونشطة الحركة في ظل وجود الجامعات فيها. وأصبحت مصدر رزق كثيرين، وخصوصاً الباعة الجوالين وأصحاب المحال وآخرين. لكن تم تدمير كل شيء".
في أقصى شمال قطاع غزة كانت مستوطنة دوغيت التي أنشئت عام 1982 في شمال قطاع غزة، وتقع على بعد كيلومتر من شاطئ البحر. وسيطرت المستوطنة على الثروة السمكية في المنطقة، وحرمت الغزيين منها. وعندما انسحب الاحتلال الإسرائيلي، أنشئ الكثير من المنازل والاستراحات البحرية فيها وتحولت إلى إحدى أجمل مناطق القطاع. وخلال العدوان، أحرقها الاحتلال الإسرائيلي وفجر منازلها، من بينها منزل يعود إلى عائلة الخطيب. كما تعمّد رفع الأعلام الإسرائيلية في المنطقة، وكان يردّد في الفيديوهات أنهم سيعودون إلى مستوطنة دوغيت، في إشارة إلى المكان نفسه كما يقول صاحب المنزل الذي فجره الاحتلال في المنطقة، ويدعى يوسف الخطيب (40 عاماً). حينها شعر بحسرة كبيرة لأنه بنى المنزل ولم يسدد كامل ديونه بعد. يقول لـ "العربي الجديد": "أحرق الاحتلال الإسرئيلي منطقتنا، ونشر فيديوهات تعكس استعراضات عسكرية فيها. رأيت منزلي ومنازل الكثيرين تدمر على وسائل الإعلام الإسرائيلية. هم احتلوا المناطق وأقاموا مستطونات فيها. وعندما بدأنا نؤسس لمستقبلنا ونبني منازلنا ونزع الورود والشجر فيها، أبادوا كل شيء... الحجر والبشر والشجر".