ولد محمد نعمان نصيف عام 1967، عام النكسة، في بلدة شبعا في قضاء حاصبيا في جنوب لبنان. تقع بلدته أسفل جبل الشيخ عند الحدود اللبنانية السورية الفلسطينية، وكأن القدر حتّم عليه أن يعيش الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان. اعتاد سماع القصف على جانبي الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، ما أدى ويؤدي إلى سقوط شهداء وخلّف ولا يزال دماراً، وهو ما يؤلمه. وتشهد الحدود اللبنانية الجنوبية مواجهات عسكرية بين إسرائيل وحزب الله غداة عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، وتستخدم إسرائيل أسلحة مختلفة أخطرها قذائف الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً.
الصدفة دفعت نصيف لاكتشاف موهبته في تحويل شظايا القذائف والصواريخ إلى تحف فنية تحاكي بيئته ومحيطه. قبل ذلك، كان يعمل دليلاً سياحياً في منطقته العرقوب وجبل الشيخ. وفي 6 أغسطس/ آب عام 2008، كان يرافق مجموعة سياحية من جنسيات مختلفة إلى منطقة في جبل الشيخ حيث تجلّى السيد المسيح وحيث مغارة الياس ومعبد روماني، ولفتته مخلفات الحروب وشظايا القذائف المنتشرة.
ويقول: "اكتسبت هذه الحرفة عام 2008 خلال عملي مع الكتيبة النمساوية ضمن قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (أندوف)، التي أنشأت بقرار من مجلس الأمن عام 1974 لمراقبة فض الاشتباك بين سورية وإسرائيل في مرتفعات الجولان وجبل الشيخ. كنت أبيعهم هذه الشظايا خلال عملي كدليل سياحي. طلبوا مني صنع صليب من الشظايا، وهكذا كانت البداية في صنع الصليب ثم أرزة لبنان".
شغف وفخر بأرزة لبنان
نصيف، الذي يعتاش وعائلته المؤلفة من الزوجة وأربعة أولاد من هذه الحرفة، بات لديه شغف كبير بعمله، ويمضي جلّ وقته في مشغله، تحيط به أكوام من الشظايا التي يصل وزنها إلى نحو 25 طناً. وكلّما سنحت له الفرصة يصعد من بلدته شبعا التي يصل ارتفاعها إلى نحو 1400 متر عن سطح البحر، إلى أعالي جبل الشيخ راكباً حصانه، وهو وسيلة النقل الوحيدة التي باستطاعتها الوصول إلى تلك المنطقة التي يصل ارتفاعها لأكثر من 2400 متر، متحدياً الصعاب بحثاً عن الشظايا المتناثرة فيجمعها ليعود محمّلاً بنحو 100 كيلوغرام من الشظايا.
يقول: "تطورت هذه الحرفة لدي وبت أصنع أي شيء من الشظايا، وقد صنع شعار الأمم المتحدة والجيش اللبناني، وهو شرف وتضحية ووفاء، وشعار الكتيبة النمساوية العقرب. عام 2015، قدمت هدية من الشظايا لسفير النمسا في لبنان ولشدة إعجابه بها قدم لي دعوة لزيارة النمسا".
يتابع نصيف: "باتت هذه المهنة أو الحرفة هوايتي المفضلة. كل يوم أصنع شيئاً جديداً وفكرة جديدة. ولا غنى عن أرزة لبنان كونها رمز الوطن، أفتخر بها كما الأجانب من مختلف الجنسيات، لا سيما عناصرالقوات الدولية المؤقتة العاملة في لبنان، التي ترغب دائماً بشراء الأرزة اللبنانية كونها من الشظايا وليس من الخشب. كما أن الجنود القدامى في الكتيبة النروجية الذين خدموا في لبنان بين عامي 1978 و1998 يطلبون مني أن أرسل لهم مجسّم شعار الأمم المتحدة وأرزة لبنان"، مؤكداً أنه الوحيد في لبنان الذي يصنع المجسمات والتحف من الشظايا، ويلفت إلى أن لكل مجسم شظاياه الخاصة مع الحرص على عدم التقطيع أو القص.
القدس
تضامناً مع الشعب الفلسطيني ورفضاً لآلة القتل الإسرائيلية، صنع قبة القدس. ويقول نصيف إن "الهدف من وراء صناعة مجسم قبة القدس من الشظايا هو إيصال رسالة في هذه الأيام لما تتعرّض له الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية من اعتداءات إسرائيلية، بالإضافة إلى جنوب لبنان، مفادها أننا نحوّل هذه الشظايا من آلة للقتل إلى فن".
ويوضح نصيف أن "هذه الشظايا التي أجمعها من أعالي جبل الشيخ هي من مخلفات حرب العام 1973 التي وقعت بين الجيش السوري والجيش الاسرائيلي، صحيح أن تلك الحرب كانت مدتها غير طويلة إلا أن هناك مئات الأطنان من بقايا القذائف والصواريخ والشظايا، وحتى الآن ما زال هناك الكثير منها، وما أقوم به من جمع لتلك الشظايا والمخلفات يساهم في تنظيف جبل الشيخ وتخفيف أثرها السيئ على الرعاة وماشيتهم في تلك المنطقة".
وعن الوقت الذي يحتاجه للانتهاء من إنجاز قطعة مهما صغر حجمها، يؤكد نصيف قائلاً: "أعمل بمفردي ومن دون مساعدة من أحد، بدءاً من جمع الشظايا ونقلها إلى المشغل وصولاً إلى الفكرة التي أنوي تجسيدها وحتى الانتهاء منها. أقل قطعة تحتاج إلى ما لا يقل عن ساعتين من العمل، كون هذه الشظايا صدئة ومتآكلة جراء العوامل الطبيعية وتحتاج إلى تنظيف". ويستخدم نصيف بعض أدوات التلحيم والصنفرة والتلميع، موضحاً أنه لا يجمع أياً من مخلفات عدوان تموز/ يوليو عام 2006 ولا مخلفات الحرب الدائرة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول كونها ملوثة باليورانيوم والإشعاعات النووية والفوسفور الأبيض، ويجمع شظايا من مخلفات حرب 1973 فقط، ويقول إنه "حتى لو كانت ملوثة نسبياً، إلا أنها مع مرور الزمن لا تعود مؤذية بسبب عوامل الطبيعة التي مرت عليها. والدليل على ذلك أن المجسمات التي أرسلها إلى خارج لبنان تخضع للفحص في المطارات قبل إدخالها للتأكد من أنها خالية من أي مواد مشعّة أو مؤذية لصحة الإنسان".
ذاع صيت نصيف في تحويل الشظايا إلى مجسمات وتحف أكثر بعد عملية طوفان الأقصى والحرب المدمرة على الشعب الفلسطيني وجنوب لبنان، ويأمل بأن تنتهي لغة القتل والدمار. ورغم شغفه بعمله هذا، يؤكد أن رسالته كانت وستبقى تحويل الموت والقتل إلى فن وجمال.