يضطرّ الكثير من أهالي غزة النازحين إلى العيش في مرافق تجارية في ظل عدم توفر خيام وازدحام جميع المدارس ومراكز الإيواء.
تسبّبت الأعداد الكبيرة للنازحين الفلسطينيين في تحول معظم المرافق العامة والتجارية والاقتصادية والخدماتية إلى مراكز للإيواء، بفعل انعدام الأماكن التي من شأنها استيعاب نحو مليوني شخص نزحوا أملاً في النجاة من جنون العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتوقفت الخدمات والمهام الأساسية للمدارس الحكومية والمدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، والجامعات والمعاهد والمراكز التعليمية الخاصة، إضافة إلى العديد من المحال التجارية والمرافق الاقتصادية والمنشآت السياحية والترفيهية والمنتزهات العامة، وتحولت جميعها إلى مراكز نزوح تضم مئات آلاف الفلسطينيين.
وأجبر الفلسطينيون الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم ومناطق سكنهم بفعل التهديدات الإسرائيلية وأوامر الإخلاء، والتي تزامنت مع القصف والمجازر الجماعية، على السكن داخل تلك المرافق غير المجهزة، لتقديم الخدمات المعيشية الأساسية لمختلف الشرائح العمرية، وخصوصاً الأطفال والنساء والشيوخ.
وتحولت العديد من المحال التجارية في المحافظات الوسطى والجنوبية إلى غرف سكنية تستقبل ذوي أصحابها بعد تهجيرهم القسري من المحافظات الشمالية لقطاع غزة، في ظل ظروف معيشية غاية في الصعوبة نتيجة ضيق تلك الأماكن المخصصة لتقديم الخدمات التجارية السريعة، والتي تفتقر إلى أدنى درجات الراحة والخصوصية.
تحولت العديد من المرافق التجارية في غزة إلى مراكز إيواء للنازحين
ويقول الفلسطيني عبد الرحمن الصالحي، وهو صاحب محل تجاري خاص بمواد التجميل النسائية في مدينة غزة، ويمتلك فرعاً آخر في مخيم دير البلح للاجئين، إنه اضطر للنزوح مع عائلته إلى مدينة خانيونس بفعل التهديدات الإسرائيلية للمحافظات الشمالية. وبعد اجتياح المدينة، اضطر للانتقال برفقة زوجته وأطفاله إلى السكن في محله التجاري، بينما انتقلت عائلته للعيش داخل مدرسة إيواء.
ويوضح الصالحي لـ"العربي الجديد" أنه لم يتخيل في يوم من الأيام أن يتحول محله التجاري إلى غرفة لإيواء أسرته، إلا أن اشتداد الحرب وطول أمدها وانعدام مراكز الإيواء والأسعار الخيالية للشقق السكنية أو الغرف الفردية، دفعه إلى اتخاذ قرار المبيت داخل المحل بعد تهيئته قدر المستطاع، لافتاً إلى الصعوبة الشديدة التي يواجهها يومياً في توفير المياه والمتطلبات الأساسية لأسرته.
وتحولت العديد من محال التزيين النسائية إلى مراكز إيواء للنازحين. وتقول سوزان اشكنتنا، التي تملك صالون تجميل للنساء إلى الجنوب الغربي من مخيم النصيرات، إنها انتقلت إلى العيش في المحل مع زوجها وأطفالها، هرباً من المناطق الشرقية للمخيم والتي تتعرض دائماً للاستهدافات الإسرائيلية، بالتزامن مع التهديدات بإخلاء المناطق الشرقية نحو المناطق الوسطى والجنوبية. وتوضح في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن عدم توفر الشقق السكنية التي يمكن استئجارها في المحافظات الجنوبية، والاكتظاظ الشديد في أعداد المهجرين في المحافظات الوسطى، دفعها وزوجها إلى التفكير في السكن داخل المحل، على الرغم من صغر مساحته، وصعوبة تجهيز الطعام والغسل والجلي داخله.
ولجأ أصحاب المحال التجارية بفعل إغلاق المعابر ومنع دخول البضائع، إلى إيواء أسرهم أو أقاربهم، أو تأجيرها بأسعار مرتفعة، وصل بعضها إلى ما يزيد عن ألفي دولار في الشهر الواحد، في محاولة لتعويض الخسائر التي لحقت بتجارتهم، إلا أن انتقادات واسعة طاولت بعض المتسببين برفع الإيجارات واستغلال حاجة النازحين للإيواء.
ويمكن رؤية الكثير من الخيام البلاستيكية المتلاصقة في الأراضي الفارغة على نواصي الشوارع، والأراضي الزراعية التي لم تتمكن من استقبال المواسم الزراعية منذ بدء العدوان بفعل الاستهداف الإسرائيلي، لإيواء الأسر المهجرة كما حصل في الأرض الخاصة بالفلسطيني أدهم المدهون في مخيم النصيرات بوسط قطاع غزة.
نصب نازحون خيامهم على أراض زراعية مملوكة لآخرين
يقول المدهون لـ"العربي الجديد" إن العدوان الإسرائيلي أدى إلى تضرر عشرة دونمات كان يزرعها، بفعل الانقطاع الكامل للمياه وعدم قدرته على الاهتمام بالأرض، والتي تحولت إلى مخيم لإيواء المهجرين بعد إزالة الأعشاب وإطعامها للدواب، بفعل النقص الشديد في الأعلاف جراء إغلاق المعابر.
ويلفت المدهون إلى أن أسباباً عدة دفعته لتحويل أرضه إلى مخيم، أولها فساد المحصول وعدم القدرة على زراعة محاصيل أخرى، إضافة إلى عدم قدرته على استيعاب المزيد من الأقارب والمهجرين من محافظتي غزة والشمال في منزله. ويقول: "بعد دخول العدوان شهره الثالث وانعدام الخيارات أمام النازحين، بدأوا ينصبون خيامهم داخل الأرض على الرغم من الأمطار الشديدة آنذاك، ولا يزال الأمر مستمراً حتى الآن".
ويقول إسلام أبو الهدى، الذي حول استراحته البحرية إلى الغرب من مدينة دير البلح لاستضافة خيام النازحين، إن العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين شلت كل مرافق الحياة، كالتعليم والاقتصاد والتجارة والسياحة.
ويبيّن أبو الهدى الذي خسر موسم الاصطياف جراء العدوان الإسرائيلي، لـ"العربي الجديد"، أن "الواجب الوطني دفع العديد من الفلسطينيين إلى التكاتف في ظل هذه الظروف الصعبة، الأمر الذي جعلنا نفكر في إتاحة الكافتيريا ومرافقها لإقامة الخيام بمساحة لا تتجاوز أربعة أمتار للخيمة الواحدة، سعياً لتعميم الفائدة قدر المستطاع تزامناً مع النقص الشديد في الأماكن والأراضي الفارغة".
ولا ينكر أبو الهدى صعوبة العيش داخل خيام بلاستيكية بالقرب من شاطئ البحر البعيد عن مختلف الخدمات الأساسية كالماء والمساعدات الإنسانية. في الوقت نفسه، يرى أن توفير مكان يعد من الأولويات في ظل الأوضاع الكارثية التي يمر بها الفلسطينيون بفعل استمرار العدوان ومطاردة المدنيين من مكان إلى آخر.
وتسبب إغلاق المعابر المتواصل بإفراغ العديد من المحال التجارية والمجمعات التجارية من البضائع، الأمر الذي دفع أصحابها إلى إغلاقها، فيما تحول عدد منها إلى مراكز لإيواء أسر بعض العاملين في تلك المنشآت، بعدما تقطعت بهم سبل إيجاد أماكن يمكنها استيعاب أسرهم، في مقابل حراسة المحتويات الأساسية، كالبطاريات وألواح الطاقة الشمسية وثلاجات اللحوم والمشروبات الباردة والرفوف وغيرها من المقتنيات.
ولم يجد الأربعيني حسام أبو شوارب مأوى لأسرته المهجرة من المناطق الشرقية لمخيم البريج وسط قطاع غزة، سوى بقالته التي استأجرها قبل الحرب في سوق مخيم النصيرات وسط القطاع، بعدما توقف عن العمل مكرهاً جراء الظروف الصعبة وعدم توفر البضائع. يقول لـ"العربي الجديد" إن العدوان الإسرائيلي أدى إلى نسف بيته بعد أيام قليلة على تهجيره منه، ولم يعد قادراً على العمل لتوفير مصدر دخل، عدا عن اضطراره للمبيت وزوجته وأبنائه الخمسة في البقالة الضيقة حيث تنعدم كل وسائل الراحة والخدمات. ويلفت إلى أنه اضطر لإنشاء حمام من الخشب والنايلون إلى جوار بقالته، الأمر الذي يزيد من صعوبة التهجير، في ظل قلة المساعدات المالية والإغاثية والغذائية والغلاء الشديد في أسعار كل السلع المعروضة.
أما الفلسطيني أحمد مراد، الذي يملك مركز بصريات، فقد حوله إلى مأوى لأفراد أسرته النازحة من مدينة غزة، واقتصر عمله على إصلاح النظارات يدوياً بعد توقف الماكينات عن العمل جراء الانقطاع الكامل للتيار الكهربائي، ومنع دخول البضائع ومنها العدسات الزجاجية، والإطارات المعدنية والبلاستيكية، والعدسات اللاصقة، والمحاليل اللازمة لتعقيم العدسات.
ويبيّن مراد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه عمد إلى تجميع البضائع الشحيحة المتبقية لديه في كراتين صغيرة، في محاولة لإبعادها عن الأطفال، وتوسعة المكان الضيق، حتى تتمكن أسرته من القيام بمهامها اليومية. ويقول "لا يمكن اعتبار المحل التجاري مكاناً للسكن، كما لا يمكن العمل بشكل طبيعي في مثل هذه الظروف التي تنعدم فيها أدنى الإمكانيات".
ويلفت مراد إلى أن الفلسطينيين في قطاع غزة باتوا مجبرين على النزوح القسري والعيش في أماكن لا تلبي أدنى احتياجاتهم، في ظل انعدام الخيارات المتاحة والتي من شأنها الحد من واقعهم المأساوي.