عبد الرحمن عبد الله مواطن سوداني في العقد الثالث من عمره، يعمل "حلاقاً" بمحل صغير في منطقة الأزهري، في جنوب العاصمة الخرطوم، لكن شغفه الشديد بكرة القدم، وخصوصاً مباريات كأس العالم، جعله خلال الأيام الماضية يترك محله، ويذهب إلى أحد الأندية في المنطقة لمتابعة المباريات وسط الجمهور، وإذا حرمته ظروف العمل، أو حاجته للمال من القدرة على ذلك، فإنه يستخدم هاتفه الذكي للدخول إلى أحد التطبيقات الإلكترونية لمتابعة المباريات، ومعه الزبائن، ما يكلفه 350 جنيهاً سودانياً (نحو نصف دولار أميركي).
يقول عبد الله لـ"العربي الجديد"، إن "كأس العالم مناسبة مهمة لأنها تأتي مرة واحدة كل 4 سنوات، وأنا حريص على متابعة كل المباريات، وكنت أشجع بقوة منتخب البرازيل، لكني تعاطفت أيضاً مع كل المنتخبات العربية والأفريقية، وعادة ما أدخل في مناكفات بريئة مع أصدقائي من مشجعي المنتخبات الأخرى، ويمكن القول إن أجواء مباريات مونديال قطر أخرجتني، وكثيرين من السودانيين، من حالة الملل، والشعور العام بالإحباط الناتج من الظروف المعيشية السيئة، والإحتقان السياسي، وانسداد الأفق".
يمنح عبد الرحمن مثل كثير من السودانيين مونديال كأس العالم اهتماماً زائداً، لدرجة أن بعض الموظفين تعمدوا الحصول على عطلاتهم السنوية من العمل بالتزامن مع انطلاق المونديال، حتى يتفرغوا للفرجة والاستمتاع، وفي هذه السنة، وبسبب الظروف العامة، فشل العديد منهم في الحصول على بطاقات الإشتراك في القنوات التلفزيونية التي تحتكر نقل المباريات، لذا يحرصون على المشاهدة جماعياً في أندية المشاهدة، والتي لا يخلو أي من أحياء العاصمة الخرطوم من أحدها، وتتباين تكلفة دخولها من ناد إلى آخر حسب المستويات، لكن المعدلات تتراوح بين 200 إلى 1000 جنيه، وتصل في ناديين فقط إلى نحو 5000 جنيه سوداني.
وسبق أن وزع نائب رئيس مجلس السيادة قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد دقلو "حميدتي"، 200 جهاز بث لشبكة "بي إن سبورت" على الأندية الرياضية والاجتماعية، كي يتيح لمزيد من المشجعين مشاهدة مجانية لمباريات كأس العالم، ورغم تحفظ كثير من الثوار على المبادرة، وعلى شخصية حميدتي، واعتبارها محاولة لتحسين صورته وسط الشباب الذين يحملونه مع بقية العسكر مسؤولية التوتر القائم في السودان، إلا أنهم استفادوا من المبادرة فعلياً، خصوصاً مع ارتفاع كلفة تذاكر دخول أندية المشاهدة.
ويتبع السودانيون طقوساً معينة للمتابعة والتشجيع، ومنهم بشير مصطفى الذي قارب على الأربعين من عمره، والذي يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن المباريات الملتهبة قلبت روتينه اليومي رأساً على عقب، فبعد أن كان يخلد إلى النوم مبكراً، صار يسهر مع المباريات المسائية حتى منتصف الليل، ويستمر السهر مع تحليل المباريات، ومناكفة الأصدقاء حتى ساعات الصباح الأولى، مبيناً أن أكثر مكان يتابع فيه المباريات برفقة أصدقائه هو منزل واحد منهم.
ويضيف بشير: "المنافسات الكروية العالمية سيطرت على تفكيري، ولم أعد أهتم بما يدور في الساحة السياسية أو الاقتصادية، كما أنني رغم عصبيتي في تشجيع فريق الهلال المحلي، فإنني لم أعد أسأل عن نتائج الفريق الذي يخوض مباريات ضمن الدوري الممتاز، ولا أفهم مغزى استمرار الدوري الممتاز المحلي رغم أن كثيرا من الدول عطلت دورياتها للتفرغ لمتابعة مونديال كأس العالم".
أما وليد الدولي "أبو طلال"، والذي يعيش بمدينة المناقل في وسط السودان، فيقول لـ"العربي الجديد"، إن النسخة الحالية من مونديال كأس العالم المقامة في قطر، أظهرت تسامح الإنسان العربي، وكرمه، وتقبله للآخرين، كما أظهرت المنافسة في الميدان ندية عالية بين المنتخبات، وحافظ معظم اللاعبين الكبارعلى مستوياتهم المعهودة، ولعبوا بطريقة أكثر من رائعة، موضحاً أن "الأجواء في مدينتي تؤكد أن الكل لديهم شغف بكرة القدم، والأجواء المصاحبة لكأس العالم، لدرجة أن المباريات أنست كثيرا من الناس مرارة العيش، وبرودة الطقس، والقصور الحكومي تجاه المواطن المغلوب على أمره".
من جهته، يوضح علاء الدين ود الصول، صاحب نادي مشاهدة في ضاحية سوبا، جنوب الخرطوم، لـ"العربي الجديد"، أن حجم الاستعداد للحدث كان كبيراً، وأنه أنفق ما لا يقل عن 900 ألف جنيه لإعادة تأهيل النادي، وتهيئته لاستقبال الزبائن من أجل مشاهدة مريحة، وأبدى أسفه الشديد لقرار السلطات المحلية فرض 150 ألف جنيه على كل نادي مشاهدة، اعتقاداً منها أن تلك الأندية تربح الآلاف، متجاهلة الفوائد الاجتماعية من المشاهدة الجماعية للمباريات.
ويضيف ود الصول: "كلفة دخول النادي 400 جنيه لكل مشاهد، وأحياناً أتجاوز عن دخول من لا يملكون كامل المبلغ، ولم أقم بطرد أحد لأنه لم يكن يمتلك ثمن التذكرة، وأنا فخور بتنظيم قطر للمونديال، وبمئات المشاركين السودانيين في التنظيم، لا سيما المهندسين الذين شاركوا في مراحل تشييد الملاعب، وكنت أتمنى وصول فريقي المفضل البرازيل إلى منصة التتويج".
على ضفة الجنس اللطيف، تجد السودانيات صعوبة في متابعة مباريات كأس العالم، إذ ليست هناك أماكن مخصصة لهن، بينما عمد حي واحد في منطقة الخرطوم شرق، إلى تخصيص أماكن للنساء. تمكنت سارة حسبو من مشاهدة العديد من المباريات فيه، ولم تشاهد أخرى لانشغالها بالعمل وأطفالها، كما شاهدت مباراتين في نادي مشاهدة بشارع النيل، أشهر شوارع العاصمة الخرطوم.
تقول حسبو: "أنشأ النادي بمجهودات خاصة من أبناء وبنات الحي، وهو ناد لطيف ومريح، ويقدم خدمات جيدة، بما في ذلك وجبة عشاء"، وتضيف لـ"العربي الجديد"، أنها تعرف كثيرات من البنات اللواتي لديهن رغبة في متابعة مباريات كأس العالم، لكن لم تتح لهن الفرصة لأسباب أهمها أن غالبية نوادي المشاهدة ذات طبيعة رجالية، والمختلط منها يحتاج إلى قدرات مالية كبيرة، كما يتطلب موافقة الأسرة، غير أن ذلك لم يمنع المهتمات من متابعة الأخبار والمباريات، والتفاعل مع أي مفاجئة تحدث في المونديال.
وفي ردها على سؤال حول مدى إخراج المنافسة السودانيين من التفكير في تردي الأحوال المعيشية والاحتقان السياسي، توضح أن "السودانيين يعشقون كرة القدم بطبعهم، لكن مهما كانت درجة العشق، فإنها لن تشتت انتباههم عن الوضع الاقتصادي السيئ في البلاد".
وتؤكد تهاني لـ"العربي الجديد"، عدم تركيزها على متابعة مباريات المونديال لأنها غير مهتمة بكرة القدم، على عكس كثيرات من صديقاتها، لكنها تستطرد: "شاهدت في النادي النسائي مباراة ألمانيا وكوستاريكا، لأن طاقم التحكيم كان من النساء، وأساند بقوة المنتخب المغربي الذي حقق انتصارات كبيرة، ووصل إلى مرحلة لم يكن يحلم بها أحد".