لا يختلف الخبراء التربويون اللبنانيون مع ما تذكره المنظمات الدولية من اعتبار نظام التعليم في لبنان أنه آيل إلى الانهيار، وهو ما ينطبق على التعليم الرسمي، وأقل على القطاع الخاص. أمر سيترك آثاراً كارثية على الأطفال اللاجئين السوريين واللبنانيين الفقراء. ومثل هذه المحصلة ترتبط بكل ما عاشه لبنان في غضون السنوات الأربع الماضية من جائحة كورونا إلى الانهيار الشامل الراهن.
ويصعب الجزم بأن يمرّ العام الدراسي على خير لهؤلاء الأطفال، ليس بسبب ما يعيشه لبنان من فوضى سياسية ومالية ونقدية وأمنية أحياناً، بل لما تعانيه سورية من ضغوط معيشية لم تعرفها منذ عقود طويلة. وبات تأمين ضرورات الاستهلاك اليومي من خبز وطعام متعذراً، إن لم نقل مستحيلاً.
وسيحرص السوريون اللاجئون "المخضرمون" في لبنان على إيصال ما يستطيعونه من أموال إلى ذويهم وأقاربهم، ما يقود بالضرورة إلى إقدام أعداد منهم على إخراج أبنائهم وبناتهم من المدارس والزجّ بهم في أعمال، أياً كانت هذه الأعمال. وبذلك، سترتفع نسبة التسرب السنوي من هؤلاء لتتجاوز الـ 40 في المائة بعدما تخطت الـ 30 في المائة في مراحل سابقة. وهكذا، سنجد أجيالاً إضافية من المرشحين للانضمام إلى جيوش الأميين الصغار.
ما سبق لا يختزل مشكلات تعليم أبناء اللاجئين السوريين في لبنان. إذ ما ورد أعلاه يتناول الوضع الداخلي في سورية. لكن مشاكلهم في لبنان تبدو أشدّ تعقيداً. ويعاني هؤلاء من صعوبات تعلمية كبرى إزاء المناهج اللبنانية، ولا سيما في مواد اللغات والرياضيات، وهو ما يصعب تعويضه بالنظر إلى احتمال أمية الأهل، أو عجزهم عن مساعدة أبنائهم في مناهج لم يتعودوها. ومن خلال متابعة الأعداد التي تنتقل من مرحلة تعليمية إلى ما هو أعلى منها، يتبين تدنٍّ كارثي لنسبة المتابعين لدراستهم، ما يدفع إلى الشك في مقولة تعليم أبناء اللاجئين في لبنان.
ومن المعروف أن العام الدراسي 2022 – 2023 شهد انقطاعات في عمليات التدريس للطلبة اللبنانيين والسوريين على حد سواء، حتى إن إنقاذ العام الدراسي تحقق بشق الأنفس، وقضى بإلغاء امتحان الشهادة المتوسطة (البروفيه)، وحسم أكثر من نصف المقرر في شهادة الثانوية العامة بفروعها الأربعة. وما سرى على العام السابق، سيكون أكثر من وارد العام الحالي. فالأسباب التي دعت المعلمين والمعلمات إلى الإضراب والامتناع عن الذهاب إلى مدارسهم لا تزال قائمة، بل زادت استفحالاً.
ويطالب المعلمون بدولرة رواتبهم، وألّا يقلّ الراتب الشهري عن 600 دولار اميركي، وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية التي انهارت، ومنحهم 450 ألف ليرة لبنانية بدل مواصلات عن كل يوم عمل. ومن المعروف أنه مع إدخال أبناء اللاجئين السوريين في النظام التعليمي، وبموجب الاتفاقات الموقعة بين وزارة التربية والتعليم العالي والمنظمات الدولية المعنية بتعليمهم، قُسِّم الحضور الصفي إلى دوام صباحي ودوام مسائي. في الأول، معظم الطلاب هم لبنانيون، بينما في الثاني، 75 في المائة من التلامذة من السوريين، يضاف إليهم 25 في المائة في الدوام الصباحي. لكن عنصر التصادم لا ينبع من هذا التفريق بين الدوامين، بل ينطلق مما تدفعه منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" عن التلميذ في كل من الدوامين.
وبحسب وزارة التربية والتعليم العالي، فإن تكلفة التحاق التلاميذ في الدوام الصباحي تزيد من الأعباء على القطاع الحكومي، وتتقاضى الوزارة 300 دولار أميركي عن كل تلميذ في الدوام الصباحي في مقابل 600 دولار أميركي في الدوام المسائي. ومن المعروف أن المعلمين اللبنانيين في الملاك والتعاقد، الذين يحصلون على أجورهم من وزارة التربية والتعليم العالي، يتقاضونها بالليرة اللبنانية التي فقدت حوالى 97 في المائة من قيمتها في غضون السنوات السابقة.
وبعد اضرابات متتالية ووعود بأن يحصلوا على جزء منها بالدولار، أخلّت الوزارة بوعودها لهم، ما دفعهم إلى الضغط على يونيسف والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومطالبتهما بتمويل تعليم أبناء اللبنانيين أسوة بالسوريين. وراجت مقولات من نوع: لن يتعلم أطفال السوريين إذا لم يتعلم أطفال اللبنانيين، و... هكذا أقفلت المدارس أبوابها معظم أشهر السنة.
وتزيد الطين بلة الحملات الأمنية التي تتعرض لها مخيمات اللاجئين السوريين، والتي بلغت من قساوتها أنها لا تميز بين من يحمل بطاقة المفوضية ومن دخل شرعياً إلى البلاد، ومن دخل خلسة بعد عام 2019. وما يضاعف من معاناة الطلاب اللاجئين، صعوبات حياتهم في المخيمات والعشوائيات، والظروف المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والصحية القاسية التي يشهدونها، والمشاكل الإدارية التّي يعانون منها للتسجيل في هذه المدارس (قسم كبيرمن هؤلاء لا قيود نفوس لهم، لا في السفارة السورية ولا في المفوضية). ويُلاحظ ازدياد هذه الصعوبات في السنوات الثلاث الأخيرة، ما سبّب تصاعد نسبة الممتنعين عن التعليم والتحاقهم بسوق عمل قاسٍ أساساً.
ومن المعلوم أن يونيسف ومفوضية اللاجئين اشترطتا على لبنان كي توافقا على منحه مساعدات تعليمية تتجاوز النثريات ونفقات التشغيل للمدارس الحكومية، دمج التلامذة اللبنانيين والسوريين، وتعليم السوريين المناهج السورية من مدرسين سوريين، ما أثار موجة عاتية من السجال الذي شاركت فيه الروابط والنقابات التعليمية، التي لم تتورع عن رفع وتيرته إلى حدود الرفض العنصري.
وفي مثل هذه الأجواء، تحول الموضوع إلى سبب لنقمة لبنانية إضافية على اللاجئين الذين يتلقون مع معلميهم الدعم والمساعدات الدولية بالدولار، بينما يُحرَمُها التلامذة والمعلمون اللبنانيون الذين باتت أوضاعهم أكثر مأساوية من اللاجئين السوريين. هذا دون الحديث الجديّ والحقوقي في مضمار خصوصية تعليم اللاجئين السوريين بما يتوافق مع مناهجهم الخاصة، كما هو أحقيتهم بالتعليم.
لكن دوماً تجد في القطاع التعليمي من يحاول مساعدة الأطفال اللاجئين وتعويض النقص التعليمي خلال أشهر الإضراب، أو بفعل تأثير أوضاعهم الخاصة، مقرونة باكتظاظ الصفوف وغيرها. لكن هذا كله لا يكفي لمواجهة واقع يحتاج إلى خطة متكاملة واستقرار سياسي واقتصادي لمؤسسات الدولة، واجتماعي للمعلمين وطرفي المعادلة. وهذا كله مفقود.