مع مرور الوقت، بات من شبه المؤكد عدم إمكانية العثور على ناجين من فيضانات درنة المدمرة، وبات الأهالي مقتنعين بهذا، لكن يصر ذوو آلاف المفقودين على البقاء في المدينة حتى الكشف عن مصير مفقوديهم، رغم أن أغلبهم فقدوا منازلهم.
وأظهرت مقاطع فيديو متداولة خيمة صغيرة تجلس داخلها سيدة فوق المكان الذي كان بيت أسرتها الذي جرفته السيول بمن فيه، وتقول إنها لن تبرح الخيمة حتى تعثر على جثث مفقوديها، وأنه لم يتواصل معها أي مسؤول ليبلغها بمصيرهم، أو يعدها بتدبير مكان آمن لها.
وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلاً صوتياً لإحدى السيدات تناشد فيه معرفة مصير بناتها بعد أن سمعت عن انتشال جثث من البحر، وتتمنى أن تتمكن من دفنهن، أو أن تعرف مكان قبورهن. وفي مسجد الصحابة بوسط درنة، والذي أطلق مؤذنه الأذان الأول بعد الفاجعة، والذي بكى فيه وأبكى السكان، لايزال المؤذن يبحث عن جثة ابنه بعد أن دفن ابنته وزوجته.
ومن داخل أزقة درنة العتيقة الضيقة، نشر أحدهم مقطعاً لإحدى المقيمات الأفريقيات، وهي تناشد أفراد إنقاذ ليبيين العمل في مكان تعتقد أنه يضم جثمان زوجها وابنيها، إذ لم يبق لها من أسرتها أحد.
وتظهر مقاطع الفيديو زحاماً كبيراً في مواقع عمل فرق الإنقاذ داخل الأحياء، أو على رصيف الميناء، وكلما يتم انتشال جثة، يتجمع الأهالي لمعرفة هويتها. يقول عضو فريق الغطس الليبي المشارك في عمليات انتشال الجثث من شواطئ درنة، مراد بن يونس: "تختلط مشاعرنا في تناقض غريب أنتجته الفاجعة، فنحزن عندما يجد أحدهم قريبه ضمن الجثث المنتشلة، ونحزن أيضاً عندما يعود البعض خائباً من دون التعرف على أحد".
يزيد تعقيد قضية المفقودين عدم إفصاح السلطات الليبية عن أعدادهم
حول طريقة توثيق المفقودين، يقول بن يونس لـ"العربي الجديد": "في السابق، كان يتم التعرف على المتوفين مباشرة من خلال ذوي المفقودين، لكن بعد تحلل الجثث أصبح ذلك صعباً. يتم غسل وجه صاحب الجثة، ويسمح للأهالي بالاطلاع من بعيد، وفي الغالب لا يمكن التعرف عليه بسبب التشوهات الناتجة عن التحلل، فتلتقط صورة، وتوثق مع الملابس والمقتنيات، بالإضافة إلى أخذ فرق الطب الشرعي عينة من الحمض النووي".
تتردد حليمة أبو شرتيلة على مدرسة أم المؤمنين بحي شيحا، والتي علق فيها نشطاء أعداداً من صور الجثث المنتشلة، تعيد تأمل الصور غير يائسة من العثور على شقيقها الوحيد، والذي كانت تسكن معه رفقة أسرته. كانت حليمة في زيارة إلى أقرباء خارج المدينة ليلة الكارثة، وعندما رجعت وجدت أن شقيقها وأسرته جرفتهم السيول.
رغم هذه الأوضاع المأساوية، لم يصدر عن السلطات، في الشرق أو الغرب، أي قرار بشأن رعاية ذوي المفقودين. يقول المتطوع ضمن فرق الإسعاف، الطاهر عفان، لـ"العربي الجديد": "لم يتبق للناس سوى البحث بين الجثث المنتشلة، ولم يعد هناك شيء يمكن أن يستجد على أوضاعهم".
وأصدر رئيس الحكومة التابعة لمجلس النواب، أسامة حماد، قراراً يمنح الأطفال الذين فقدوا ذويهم في المناطق المتضررة من جراء الفيضانات صفة "مكفول من الدولة"، متعهداً بالتكفل بهم عبر وزارة الشؤون الاجتماعية بعد حصرهم، ويشمل القرار الرعاية الاجتماعية والصحية والدعم النفسي، وتوفير نفقة شهرية لم يكشف عن قيمتها، وتوفير السكن ومصروفات الدراسة والعلاج.
ويعلق الطاهر عفان: "هذا القرار سيلحق بغيره، ولو كانت القرارات جادة لرأينا ما يشير إلى بدء تنفيذها، فالمفترض أنها قرارات عاجلة، لكن ما نراه على الأرض مجرد سباق على اتخاذ القرارات بين حكومتي طرابلس وبنغازي. حكومة طرابلس طلبت عون البنك الدولي في إدارة أموال إعادة الإعمار، فدعت حكومة بنغازي إلى عقد مؤتمر دولي للإعمار في درنة في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول".
مصير عائلات مفقودي ليبيا غامض لأن غالبيتها فقدت منازلها
يتمنى الصالحين أبو مريم إيجاد جثة ولديه بعد أن دفن أمهما. يقول لـ"العربي الجديد": "وجع عدم إيجاد الجثث لا يقل عن وجع الفراق، ولن يرتاح قلبي حتى أجدهما، وأدفنهما بما يليق بهما". يعيش أبو مريم رفقة طفلته الناجية في ضيافة أقربائه في مدينة البيضاء، وهو يقطع المسافة بين المدينتين يومياً للاطلاع على الجثث التي يتم انتشالها، عله يجد بقية أفراد أسرته بين المتوفين.
ويؤكد المحامي لدى المحكمة الليبية العليا، بلقاسم القمودي، لـ"العربي الجديد"، أن "أول القضايا المثارة بشأن أهالي المفقودين هي عدم وجود تكييف قانوني لمسمى مفقود. رغم الألم، إلا أنني أتمنى العثور على كل الجثث حتى تنتهي المأساة، وإلا ستكون مشكلة كبيرة تثقل كاهل المجتمع كله. ما يستفيده ذوو المفقودين من العثور على الجثث نوعان، أحدهما نفسي والآخر قانوني، فالأول ينهي معاناة الأهل الذين لن يفقدوا الأمل، والثاني يحتاج إلى البت في وضعهم القانوني وإصدار شهادات الوفاة لهم، وعليه ينبغي البدء في إجراءات قانونية سيؤثر تأخيرها على أهالي المفقودين".
ويضيف القمودي: "المفقودون وفق القانون الليبي هم أحياء حتى ثبوت الوفاة بتوفر الجثة، أو ثبوت وفاتها بالطب الشرعي عبر المقتنيات، ومع عدم تحديث قوانين الأحوال الشخصية، فنتائج الحمض النووي يمكن تكييفها قانوناً ضمن مفهوم المقتنيات، ومجلس النواب المنوط به إصدار التشريعات لم يصدر عنه أي تحديث يوضح مصير المفقودين خلال الحروب والأزمات".
يتابع: "يترتب على استمرار غموض مصير المفقود، وعدم وضوح التفسير القانوني، ضياع مصالح ذويه، كتعطل إصدار شهادة الوفاة، ما يعطل صرف راتب المفقود لأسرته، وغيرها من الإجراءات القانونية مثل تجديد قيود الطلبة في مؤسسات التعليم، أو انتقال الولاية وغيرها".
ويزيد من تعقيد قضية المفقودين عدم إفصاح السلطات عن أعدادهم، على الرغم من إعلانها المتكرر بدء إعداد قواعد بيانات. وينقل المتطوع الطاهر عفان عن غرفة الطوارئ الحكومية بالمدينة، تبريرهم ذلك بعدم استكمال عمليات انتشال الجثث، وإعلان نتائج تحاليل الحمض النووي، لكنه يستدرك: "مع كون التبريرات منطقية، إلا أن هذا لا يعفي السلطات من مسؤوليتها تجاه شفافية المعلومات".
وبدأ ظهور قضية المفقودين في ليبيا منذ تفجر القتال في عام 2011، إذ أنشأت سلطات ما بعد الثورة وزارة خاصة برعاية أسر الشهداء والجرحى والمفقودين، ولاحقاً أطلقت هيئة حكومية خاصة باسم "الهيئة العامة للتعرف والبحث عن المفقودين"، لكن التعريف الإجرائي والقانوني للمفقود لا يزال غائباً.
ومع كل أشكال الأسى الظاهرة على أسر المفقودين؛ اقتصر الدعم في درنة وغيرها من المدن المتضررة على الجانب المادي، قبل أن تتولد أسئلة حول مصير عائلات المفقودين، خاصة وأن غالبيتهم فقدوا بيوتهم، ويعيشون عند الأقارب، أو في المدارس التي جهزتها السلطات لاستقبال المتضررين.
يقضي عبد العزيز الحصادي كامل النهار في الانتقال بين مراكز جمع الجثث للبحث عن جثمان زوجته، ثم يعود إلى بناته الثلاث وابنه الذين ينتظرونه في منزل صديق له بحي شيحا. يرفض عبد العزيز إبقاء أسرته في إحدى المدارس التي لجأت إليها الأسر التي فقدت منازلها، ويقول لـ"العربي الجديد": "المدرسة غير معدة لإقامة الأسر، كما أن الاختلاط لا يسمح لي بترك بناتي فيها. لم تبلغنا البلدية أو الحكومة بأي شيء، والأغلب أنني سأعتمد على نفسي في شراء شقة لأسرتي بعد التأكد من وفاة زوجتي".
ويعلق المحامي بلقاسم القمودي بالقول: "هذه الحالة الإنسانية تتطلب أن يسعى الأب للزواج بمن تساعده في العناية بأطفاله، ووفق التقاليد الاجتماعية، غالبا ما يتزوج الرجل بأخت زوجته، أو إحدى قريباتها، لكن القانون سيمنعه، لأنه يشترط موافقة الزوجة الأولى، وتوقيعها لدى المحكمة، ووفق القانون فإنها حية لعدم وجود شهادة وفاة".
ورغم اعلان الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين الحكومية الشروع في أخذ عينات الحمض النووي لإجراء اختبارات التطابق بين الجثث المجهولة وأهالي المفقودين، في مسعى للتعرف على المجهولين منهم، إلا أنها لم تعلن عن أي موعد لاكتمال عملها. وكشفت الأمانة العامة لـ"الإنتربول"، استعدادها لتقديم المساعدة الفنية في مجال الطب الشرعي، ونيتها إرسال فرق لدعم جهود البحث والإنقاذ، والتعرف على الجثث مجهولة الهوية.