في الخارج، ترتفع أصوات أبواق السيارات، ويطول طابور الانتظار أمام محطة وقود. تتغيّر ملامح مدينة بيروت اليوم وسط الأزمات الخانقة المتتالية، ويظهر سكانها ملامح التعب والسخط على وجوههم. لكنهم لا يزالون صامدين وسط مكان فريد وهادئ ومليء بألوان الحياة والكتب التي تحيط محبي القراءة والمطالعة كي يجدوا متنفساً لهم. في أرجاء هذا المكان يختارون كتاباً ويتصفحونه ويمضون الوقت في قراءته، ثم يسرحون بخيالهم بعيداً عن طوابير الانتظار، وتوتر الأزمات في مدينة بيروت.
تقول رناد محمود (21 عاماً) الطالبة الجامعية في السنة الثانية، لـ"العربي الجديد"، فيما تستعد لامتحاناتها بهدوء في المكتبة العامة - السبيل بمنطقة الباشورة: "أقصد المكتبة هرباً من اليأس والمشكلات في الخارج، ولطلب بعض الهدوء والتكييف في ظل انقطاع التيار الكهربائي في البيت. أعيش في منطقة بعيدة عن المكتبة التي يستغرق وصولي إليها ساعة من الزمن باستخدام وسائل النقل العام، أي الباص أو السرفيس. لكن الأمر يستحق العناء فالمكتبة مثل وردة جميلة برائحة زكية".
من جهته، يخبر علي الحجيري (25 عاماً) "العربي الجديد" بأنه لم يكن يعرف بوجود مكتبة في المبنى. ويشير إلى أنه يبحث تحديداً عن كتب روايات الخيال والشخصيات الخيالية التي يفضلها. يختار كتاباً سميكاً، ويتوجه إلى مقعد للجلوس وسط المكتبة ويبدأ في القراءة. يؤكد أن زياراته ستتكرر إلى المكتبة في الفترة المقبلة، "لأنني أهوى ملاحظة فنّ تصاميم الكتب الذي يندرج ضمن اختصاصي الجامعي".
نسيان الواقع والألم
تقف يارا نحاس (15 سنة) حائرة أمام رفوف الكتب. فهي تتفرّغ بعد إلغاء الامتحانات الرسمية للشهادة المتوسطة في لبنان هذه السنة لمطالعة كتب باللغات العربية الإنكليزية والفرنسية تتناول مواضيع مختلفة مثل التاريخ والعلوم وحياة الأدباء. تقصد المكتبة منذ خمس سنوات بعدما دلّتها إحدى المعلمات على مكانها. تقول لـ"العربي الجديد" إنها تفّضل القراءة بدلاً من تمضية الوقت أمام وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيق "تيك توك"، "فهي تكسبني القدرة على مجاراة أشقائي الأكبر سناً في مناقشة مواضيع واكتساب معلومات غنية".
وخلال مطالعته كتاباً هرباً من أزمات السياسة البالغة التعقيد في لبنان، يقول قاسم شكر (63 عاماً) لـ"العربي الجديد": "تعرّفتُ على زملاء وأصدقاء كُثر في المكتبة العامة. نتبادل الحوارات والآراء في شأن الكتب والمؤلفين، علماً أنني أحب قراءة الكتب في مجالي الأدب والتاريخ وبعض الفلسفة. ويبدو هذا المكان اليوم مساحة معزية للنفس وسط المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي نعانيها، وأنا أقرأ الكتب فيها لنسيان الواقع والألم".
ويشير محمد حليم (21 عاماً) الى أن "أسعار الكتب باتت مرتفعة في لبنان وسط الأزمة الاقتصادية، وأنا لا أستطيع شراءها، لذا قرّرت أن أستعير بعضها من المكتبة العامة حيث ألتقي أيضاً أصدقاء وأتبادل معهم الحديث. أحاول الهروب من المشكلات في الخارج، والتركيز على نفسي. أحاول أن أتخيّل وأبدع في مكان هادئ".
عشرون عاماً
فعلياً، مضى عشرون عاماً على تأسيس المكتبة العامة - السبيل التابعة لبلدية بيروت وتديرها جمعية "السبيل"، في منطقة الباشورة، علماً أن المكتبة العامة أبصرت النور في منطقة الجعيتاوي شرق بيروت عام 2004، وانتقلت إلى منطقة مونو في شرق بيروت أيضاً عام 2008. ثم باشرت المكتبة العامة المتنقلة "Kotobus" زيارة مدارس رسمية ومخيمات للاجئين سوريين وفلسطينيين من أجل توفير كتب للراغبين.
يتحدث المنسق التنفيذي لجمعية "السبيل" علي صباغ لـ "العربي الجديد" عن أن "المكتبة العامة تضررت كثيراً من انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب من العام الماضي، وتوقّفت عن العمل، ما دفع الجمعية إلى القيام بحملة تبرعات واسعة لدى جهات مانحة، والتي سمحت بإنجاز أعمال الترميم والصيانة، وإعادة تشغيل المكتبة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، واقتناء مجموعة تضم 10 آلاف كتاب جديد. وتفتح المكتبة اليوم أبوابها بقدرة استيعاب أقل من النصف التزاماً بإجراءات الوقاية من فيروس كورونا".
توفّر المكتبة خدمات عدة، منها إعارة كتب مجانية في مختلف اللغات والمجالات لجميع الأفراد والمقيمين على الأراضي اللبنانية، وخدمة إنترنت سريع ومجاني، وتصفح الصحف والمجلات اللبنانية والأجنبية، والاطلاع على الكتب الإلكترونية باللغة الإنكليزية من خلال مشروع مشترك مع المركز الثقافي البريطاني في بيروت. كما تنظم المكتبة نشاطات مختلفة بعضها عبر وسائل تواصل افتراضية بسبب جائحة كورونا، مثل نوادي الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وبانوراما الفنون، ومناقشة مواضيع الساعة. وتستعيد شيئاً فشيئاً أنشطتها الحضورية، مثل نادي السينما الذي يعرض بالتعاون مع "نادي كل الناس" فيلماً قبل أن يناقشه مع الجمهور، أو ساعة القصة للأولاد، والتي تُنظم كل نهار جمعة.
ويكشف صباغ أن "ثلاث مكتبات عامة تديرها جمعية السبيل تستقبل 30 ألف زائر سنوياً، وتشهد إعارة 20 ألف كتاب سنوياً، وتنظيم 150 نشاطاً في العام الواحد بمشاركة 3 آلاف شخص. أما المكتبة المتنقلة فيستفيد منها حوالى 7 آلاف شخص، علماً أنها ستستعيد نشاطها مع تخفيف إجراءات فيروس كورونا".
مساحة لأنشطة ودورات
خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وفّرت جمعية "السبيل" برنامج دعم مدرسي لمساعدة الطلاب في دروسهم اليومية، أو تزويدهم بأجهزة للتعليم عن بعد. وتعمل حالياً على تعزيز قدرات المكتبات العامة الأخرى، وإقامة مشاريع تستهدف الشباب مثل "العيش معا"، أو محترفات للكتابة الإبداعية أو التصوير الفوتوغرافي. وتحرص الجمعية أيضاً على تأمين مساحة عامة حيادية ومجتمعية للجمعيات الراغبة في إقامة أنشطة ودورات. وتُخبر الناشطة الاجتماعية فابيان عقيقي أن جمعية "حماية" تقوم بنشاطات عدة في المكتبة العامة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" وبلدية بيروت وجمعية "السبيل" من أجل حماية الأطفال من العنف الجسدي أو المعنوي أو الجنسي، وتوفير دعم نفسي مجتمعي للأطفال، خصوصاً بعد انفجار 4 أغسطس/ آب، الذي خلّف آثاراً نفسية سلبية على الأطفال.
وفيما يطرح صباغ على نفسه السؤال حول جدوى الثقافة وخدمات المكتبة العامة في ظل أوضاع الناس الصعبة الذين لا يقدرون على تأمين حاجاتهم الأساسية، يجيب بأن "الثقافة والقراءة حاجتان أساسيتان أيضاً، والمكتبة توفّر للمتعبين والمنهكين مساحة جميلة وهادئة يمكن الهروب إليها. والمعرفة والثقافة قد تساعدان المواطنين من مختلف الأعمار في تحقيق تغيير في مجتمعنا بعيداً عن المحسوبيات السياسية والطائفية وغيرها".