بعد أيام على وصولها إلى تونس قادمة من غزة، لا تزال عائلة الغريري تشعر بدوي صافرات الإنذار وأصوات القنابل، وكأن الخطر الذي لاحقها خلال رحلة الهرب من جحيم العدوان لم ينته بعد. عاشت الأسرة الغزية المكونة من ستة أفراد حربي 2006 و2014، لكنها لم تفكر أبداً في مغادرة القطاع، قبل أن تجبر هذه المرة على ترك منزلها في حي النصر في مدينة غزة بعد أيام قليلة على بدء العدوان، والتوجه نحو منطقة الزوايدة الواقعة في قلب محافظة الوسطى بقطاع غزة كمرحلة أولى، ثم الخروج من قطاع غزة عبر معبر رفح والتوجه إلى تونس.
تقول سميرة مبارك عوينات التي تحمل الجنسية التونسية، إن "الأيام الأخيرة التي عاشتها في غزة كانت الأقسى خلال 30 عاماً قضتها في قطاع غزة منذ زواجها عام 1994. عاشت خلال تلك الفترة حروباً عدة، لكنها لم تجبر ولو مرة على ترك بيتها وكل ذكرياتها". تضيف: "هربنا من جحيم القصف الجنوني الذي دمر كل شيء في محيط البيت الذي تفصله مسافة قصيرة عن مجمع الشفاء الطبي ومستشفى الرنتيسي للعيون اللذين طوقهما الاحتلال من كل جانب".
تؤكد عوينات أن "حي النصر كان محل استهداف مكثف منذ بدء العدوان، وكان المحتل يلقي القنابل في أي وقت ومن دون سابق إنذار على المربعات السكنية"، متوقعة أن ترتفع حصيلة الشهداء إلى رقم قياسي بعد انتشال الشهداء الذين لا يزالون تحت الأنقاض.
بعد قرار العائلة مغادرة حي النصر نحو الزوايدة، لم تكن الأوضاع أكثر أماناً بحسب سميرة. كانت الصواريخ تصل إلى المكان، علماً أن الزوايدة التابعة لمحافظة دير البلح تعد منطقة سياحية وغير مكتظة بالسكان. وتصف الحال بـ "الجحيم المتواصل من القصف ولم يترك الاحتلال لنا فرصة لالتقاط أنفاسنا".
في منطقة الزوايدة، تقول إن "الوضع ازداد صعوبة مع تدفق أعداد كبيرة من النازحين من الشمال بحثاً عن أمان مفقود، لا سيما وأن القنص كان يطاول الأهالي على طريق النزوح، على الرغم من اتخاذهم كل التدابير لتأمين سلامتهم عبر رفع الرايات البيضاء". تتابع: "منذ استئناف القصف في الأول من ديسمبر/ كانون الأول الجاري بعد هدنة استمرت سبعة أيام، اضطر مئات آلاف الأشخاص الذين لجأوا إلى جنوب القطاع للفرار مرة جديدة اتقاء من القصف والمعارك التي تتوسع جنوباً. فكانت الأسر تتكدس في البيوت والمدارس وحتى داخل المنازل المهدمة".
وتشير المتحدثة إلى أن "فرصة النجاة الأخيرة بالنسبة لعائلتها كانت عبر مناشدة البعثة التونسية في رام الله لإجلائها مع أفراد أسرتها، بعد إدراج أسمائهم ضمن قائمة العائلات التونسية المقيمة بقطاع غزة، الذين أبدوا رغبتهم في المغادرة المؤقتة إلى حين انتهاء العدوان برفقة أزواجهم الفلسطينيين".
رحلة البحث عن الطعام
يقول رضوان الغريري (31 عاماً) الذي وصل إلى تونس مع والديه وشقيقاته الثلاث، إن "عودته إلى غزّة ليست إلا مسألة وقت"، مؤكداً أن "العدو الصهيوني لن يحقق أهدافه بإجبار الفلسطينيين على ترك أرضهم". ويوضح لـ "العربي الجديد" أن "ما تنقله شاشات القنوات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي لا يعكس إلا القليل من حجم الدمار الذي خلفته الحرب في غزة، والمآسي الإنسانية التي ستبقى جراحها نازفة طويلاً حتى وإن نجا أصحابها". ويوضح أن "أشكال الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال متعددة، فمن نجا من القصف يمكن أن يموت جوعاً أو عطشاً أو بسبب انعدام الرعاية الصحية للمرضى. رائحة الموت تفوح في كل مكان وتتناثر الجثث والأشلاء بين ركام البيوت وعلى الطرقات".
ويتحدث رضوان عن المشقة اليومية للناجين للبحث عن طعام في مناطق انعدم فيها التموين أو وصلت فيها الأسعار إلى مستويات خيالية. يضيف: "خلال أسابيع الحرب، تضاعفت أسعار المواد الأساسية أكثر من خمس مرات. وصل سعر تعبئة أسطوانة الغاز إلى حوالى 134 دولاراً بعدما كان حوالى 19 دولاراً قبل العدوان. كما زاد سعر كيس الدقيق سعة 25 كيلوغراماً إلى حوالى 107 دولارات، في وقت لم يكن فيه ثمنه يزيد عن حوالى 16 دولاراً قبل العدوان". إلا أن غالبية المواد كانت مفقودة في الأسواق. ويقول رضوان: "نبحث عن أي غذاء متوفر لساعات طويلة ونقبل الشراء بأي ثمن، وهناك من دفع حياته واستشهد وهو في رحلة البحث عن طعام لعائلته وأطفاله".
أرواح معلقة في غزة
الطالبة الجامعية بتخصص إدارة الأعمال روعة (21 عاماً)، وهي البنت الصغرى لعائلة الغريري، وصفت الرحلة من منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة نحو معبر رفح بالشاقة والطويلة والمحبطة. تقول لـ "العربي الجديد" إن "الخروج من غزة المحاصرة بالنيران كان بمثابة معجزة بالنسبة إليها".
خلال أسابيع الحرب، خسرت روعة العديد من أصدقائها في الجامعة وفقدت الاتصال بآخرين، لكنها تصر منذ الوصول إلى تونس على الاطمئنان على من تبقى من معارفها في الكلية التي كانت تدرس بها. تضيف: "لا أدري إذا ظل بيتنا في حي النصر قائماً أو تحول إلى ركام، لا أدري أيضا أي مصير لمستقبلي الدراسي. نحن فقط نقلنا أجسادنا إلى مكان آمن، لكن أرواحنا ومشاعرنا وذكرياتنا ظلت هناك في غزة ولا نعرف متى سنستعيدها".