لم تكن الأسيرة الفلسطينية المعتقلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي لينا أبو غُلمي (39 عاماً) تعلم أنّها لن ترى طفلتَيها التوأمَين نتالي ونايا البالغتَين من العمر ثمانية أعوام، وهما ترتديان ملابس العيد التي اشترتها لهما قبل اعتقالها بيوم واحد فجر الثاني والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي، من بيتها في بلدة بيت فوريك شرقي مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة. وكانت الأمّ قد أصرّت على شراء الملابس لإدخال الفرحة إلى قلبَي طفلتَيها، بالتزامن مع انتهاء العام الدراسي.
لكنّ الحزن على فراق الأمّ تضاعف مع غياب الأب، نضال أبو غلمي، الذي أُودع في سجون الاحتلال فجر الخامس من يوليو/ تموز الجاري، لتنتقل رعاية الطفلتَين إلى حضن جدّتهما لأبيهما الحاجة نفوز أبو غُلمي "أمّ يوسف" (68 عاماً) التي اعتادت على مقارعة الاحتلال منذ أكثر من أربعة عقود.
تقول أمّ يوسف وإلى جانبها حفيدتاها لـ"العربي الجديد": "اعتقل العدوّ زوجي لأكثر من اثني عشر عاماً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أبنائي الذكور جميعاً. لكنّني لم أعش أصعب من هذه التجربة باعتقال ابني نضال وزوجته لينا بفارق أسبوعَين وتركهما نتالي ونايا أمانة لديّ"، مشدّدة على أنّ الصغيرتَين "في عينَيّ وقد وهبت حياتي لهما. هما تنامان في سريري وأشرف بنفسي على كلّ تفاصيل حياتهما الآن".
وفي العيد، كانت الحاجة أمّ يوسف تستقبل المعايدين فيما الطفلتان إلى جانبها، بعد أن ألبستهما ملابس العيد التي اشترتها أمّهما لينا. تضيف الجدّة: "هما عروستان صغيرتان وبريئتان، لكنّهما لا تنفكان عن السؤال: متى تعود ماما وبابا؟ فأصبّرهما قائلة إنّ الفرج قريب، وإنّ الله سيفرج عنهما عاجلاً أم آجلاً". يُذكر أنّ مهمّة العناية بالطفلتَين تتشارك فيها العائلة كلّها، الأعمام والعمّات والأخوال والخالات، وما سهّل الأمر هو أنّ الوالدَين من البلدة والعائلة ذاتهما.
تجدر الإشارة إلى أنّ لينا ونضال أسيران سابقان اعتُقلا للمرّة الأولى في عام 2004، ولم يكونا يعرفان بعضهما بعضاً عن قرب، لكنّ رسائل السجن المتبادلة قرّبت بينهما، قبل أن يُفرَج عنهما بعد قضاء أربعة أعوام في الاعتقال، ثمّ كان الارتباط بينهما في عام 2009. ويبدو الزوجان متعلّقَين جداً بطفلتَيهما، أكثر من العادة، وتشرح الجدّة أنّ ذلك يعود إلى معاناتهم لأربعة أعوام قبل أن ينجباهما من خلال عملية زرع أنابيب. فباتت بالتالي نتالي ونايا كلّ حياتهما.
ومع مرور الأيام، تحاول العائلة مساعدة الطفلتَين في تجاوز ما عاشتاه من خوف ورعب، تحديداً ليلة اعتقال الأمّ. وتصف الجدّة المشهد قائلة: "كان جنود الاحتلال كالمجانين، خلعوا باب البيت وصعدوا إلى الطابق العلوي حيث تسكن لينا ونضال، وهم يصيحون بأعلى أصواتهم من دون مراعاة وجود الطفلتَين اللتَين اختبأتا تحت غطاء السرير وبدأتا بالبكاء. لأكثر من ثلاث ساعات، وهي مدّة التحقيق الميداني مع لينا، كانت الصغيرتان تبكيان من دون توقّف، حتى سمح الجنود لابني أن ينزلهما إلى شقتي".
وما كادت نتالي ونايا تعتادان على ما جرى وتعودان إلى حياة طبيعية نوعاً ما وتزوران خالتهما في بلدة مجاورة، حتى انقضّ جنود الاحتلال مجدّداً على بيتهما ليعتقلوا أباهما نضال.
فكان ذلك امتحاناً جديداً للجدّة، التي استعانت بمتخصصة بعلم النفس لإبلاغهما بخبر اعتقال الأب الذي وقع عليهما كالصاعقة. لكنّ ما خفّف عنهما بحسب ما تشير أم يوسف أنّهما لم تكونا في البيت لحظة الحادثة، مشدّدة على أنه "يكفيهما ما مرّتا به ليلة اعتقال أمّهما".
تقول نتالي لـ"العربي الجديد": "تيتا حكت لنا أنّ بابا وماما أبطال، وما لازم نخاف عليهما، بس أنا اشتقت لهما كتير". وتحاول الطفلة أن تعود بالذاكرة إلى إجازة عيد الفطر قبل أكثر من شهرَين، وتخبر: "رحنا معهما إلى مدينة الألعاب والمسبح، وكذلك إلى المطعم"، قبل أن تقاطعها نايا: "بس أنا أشطر منك في السباحة". وتضحكان بكلّ براءة.
وكان الاحتلال الإسرائيلي قد عرقل سفر لينا قبل نحو شهرَين للمشاركة بمؤتمر زراعي في الأردن، لكنّها ذهبت في النهاية. وفي خلال عودتها، أوقفتها استخبارات الاحتلال على جسر "ألنبي" أو جسر "الملك حسين" للتحقيق معها، وفُتّشت بدقّة وسُحبت بيانات جهازها الخلوي قبل إطلاق سراحها.
وكانت رحلة لينا مع الاعتقال قد بدأت في عام 2004، حين اتُّهمت مع رفيقتَين لها بالانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والإعداد لتنفيذ عملية فدائية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. حُكم عليها بالسجن أربعة أعوام، قبل أن يعيد الاحتلال اعتقالها لأشهر عدّة في عام 2013. والاعتقال الحالي هو الثالث لها.
وفي خلال اعتقالها الأخير، اقتيدت لينا إلى سجن بتاح تكفا في الداخل الفلسطيني المحتل، وقضت أسبوعاً كاملاً في التحقيق. وعندما فشل الاحتلال بتثبيت الاتّهام، نقلها إلى مركز تحقيق الجلمة شمالي فلسطين المحتلة ومدّد اعتقالها تسعة أيام أخرى، للضغط عليها وتلفيق الاتهامات.
ولعائلة أبو غلمي سجلّ نضالي، فالأسيرة المحرّرة لينان أبو غلمي عمّة الأسير نضال زوج لينا، اعتقلت لسبعة أعوام بالتزامن مع اعتقال لينا في المرّة الأولى، فيما اغتال جنود الاحتلال زوج لينان الشهيد أمجد مليطات، واعتقل شقيقها عاهد أبو غلمي وحكم عليه بالسجن المؤبّد وخمسة أعوام إضافية بعد اتهامه بالضلوع بقتل وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي في عام 2001. يُذكر أنّ الاحتلال يدّعي أنّ المسؤول المباشر عن هذه الخلية هو الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الأسير أحمد سعدات.