في عام 1994 أنجزنا فيلماً روائياً قصيراً بعنوان "نهار لا يبتسم إطلاقاً"، حكى قصة طفلة يدفعها الفقر مع أمها إلى طلب أموال من أصحاب سيارات تعبر أحد التقاطعات في المدينة الكبيرة. وبمرور الأيام، نشأت علاقة صداقة بين المتسوّلة الصغيرة وطفلة توّجاها بتلاقي أكفهما الصغيرة عبر زجاج نافذة سيارة مغلقة، فيما يفتح الزجاج أحياناً بمقدار يسمح بتمرير ورقة نقدية، أو عملة معدنية.
في ذلك النهار، حاولت طفلة السيارة منح صديقتها طفلة الشارع تفاحة، لكن شارة المرور عاجلتهما، فانفلتت التفاحة لحظة انطلاق السيارات، ودُهست الطفلة تحت الإطارات لدى محاولتها إنقاذ التفاحة.
صورة رسمها الخيال، لكنها لم تبارح خيالي طوال 27 عاماً، إذ لا يزال يتهدد الموت مئات من الأطفال عند تقاطعات الطرق في مدينة بلا رحمة، لكن ليس من خطر دهس السيارات المسرعة لهم، بل من تأثير الأبخرة والسموم التي تنشرها السيارات، على رأسها أول أوكسيد الرصاص عديم الرائحة واللون الذي يلتصق بكريات الدم الحمراء ويتحد معها ليعوق عملها في نقل الأوكسجين لخلايا الجسم مسبباً الاختناق.
يقول الخبراء إن التعرض المستمر للرصاص يؤدي إلى التسمم. ولسوء الحظ فإن الأطفال أكثر عرضة للإصابة بتسمم الرصاص من البالغين. وتبدأ أعراض التسمُّم في الظهور عندما يتراكم ليهدد حياة الفرد. لكن يصعب اكتشافه.
تقول الوثائق التاريخية إن الرصاص كان سبباً في انهيار الإمبراطورية الرومانية، إذ أقبل النبلاء والأرستقراطيون على المعدن (الجديد)، واستخدموه في أغراض حياتية عدة، لكن أحداً لم يفطن إلى أنه كان السبب الأول في تدني متوسط عمر الإنسان نحو 25 سنة، ولم يكن عامة الشعب في منأى عن هذا الخطر الداهم، فقد وصل إليهم عبر أنابيب المياه المصنوعة من الرصاص. فما بال هؤلاء الذين يستنشقونه مباشرة.
واللافت أن دولاً تعامل الرصاص مثل المجرمين، ففي إنكلترا يوضع تحت مراقبة مستمرة لتجنب ارتفاع مستوياته عن الحد المسموح به، والمقدر بـ 2 ميكروغرام في المتر المكعب. ومنذ عام 1997، اتخذت إجراءات لخفض مستوى الرصاص في وقود السيارات إلى ما دون 30 في المائة.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2001، نشرت مجلة "العربي" رسالة وجهها طفل أميركي إلى مسؤول بيئي قال فيها: "الرصاص أحد أخطر العناصر على صحة الأطفال، إذ إنه يدمر حتى في أقل درجات التركيز الجهاز العصبي للصغار الذين يتعرضون له، ويؤخر نموهم، ويؤثر على قدرات تحصيلهم في مراحل الدراسة الأولى. إن هذا العدو الخطير يتربص بنا في مكونات كثيرة، ويتجمع في أجسامنا، ويداوم في عظامنا لمدة تصل إلى 25 سنة. ونحن نرى أن المعايير والإجراءات التي تواجه بها مؤسساتنا البيئية هذا العنصر الهدّام تعطيه الفرصة للإفلات، والتسلّل إلى طعامنا ومائنا وهوائنا".
هناك فارق شاسع بين وعي هذا الطفل، وجهل أقرانه في أماكن أخرى، ما لن يتم تجسيره إلا بالمزيد من الوعي، والقوانين الرادعة. فهل نبدأ؟
(متخصص في شؤون البيئة)