يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، عن أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقا إنسانيا وشخصيا ومجتمعيا، رهيفا وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازيا مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضا من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعا في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
1 نوفمبر
قصفوا حارَتنا. أزالوا جزءاً كبيراً منها. أغارت الطائراتُ على منطقة السنايدة من الحارة وأزالوها عن بكرة أبيها. بدا المكان مثل مشهد ختامي من فيلمٍ عن نهاية الكون. قرابة خمسين منزلاً جرى تدميرها بشكل كامل. لم يبقَ منها شيء. كما أن عشرات المنازل على الجانب الآخر من الشارع تضرّرت بشكل كبير. الموت يفترش الرّكام، والرّكام يغطّي المكان، والمكان لم يعد المكان. الغبار والهواء المشبّع بقطع الحجارة وشذرات الدمار المتطايرة من البيوت المهدّمة من خشبٍ وحديدٍ ومعدنٍ بشكل عام تغلف الجو، وتجعل التنفس ثقيلاً وصعباً. الجثث مرميّة على الأرض، وقطع الأجساد الممزّقة موزعة بين أكوام الدمار، أو في الحفر الكبيرة التي صنعتها الصواريخ، وهي تدمّر المكان.
هذه حارتُنا. الحارة التي ولدتُ فيها وترعرعتُ فيها وعشت فيها كل حياتي. أحفظها غيباً. أعرف كل شيء فيها. الحارة لا تعني البيوت ولا الحجارة ولا شجرة الظلّ أمام بيت مسعود ولا كراج السيارة القديمة بجوار دار العاصي، ولا تعني صالون حلاقة توفيق أبو النصر، هي لا تعني ذلك كله، إنها تعني هذا الشعور بالانتماء للمكان لأنك جزءٌ منه، فأنا أعرف البيوت بيتاً بيتاً، وأعرف الأزقّة زقاقاً زقاقاً، وأحفظ من يسكن في كل بيت، ومن يتزوج من، وكم من الأطفال لديه، ولمن زوج بناته، ومن خطب بنته لابنه. أعرفُ حكاياتهم وقصصهم، وأعرف مواسم حزنهم ولحظات فرحهم. أعرف عنهم قصصاً تسبق ميلادي وتسبق النكبة، لأنني على مدار ذلك العمر كنتُ دائماً جزءاً من هذا التشكيل البشري المكاني المتداخل. حين أذكر شيئاً ويستغرب أحدُهم أنني أعرف، أردّ بنوع من البداهة: حارتي.
نطلق على هذا الجزء من الحارة بلوك السنايدة، نسبة إلى قرية دير سنيد التي يسكن لاجئون منها هذا الجزء من الحارة، وهي أول قرية يمرّ عليها المرء، حين يخرج من قطاع غزّة عبر المعبر الحدودي، وتكون على شكل قاطع طولي غرباً، حيث تحدّها قرية هربيا المشاطئة للبحر من جهة الغرب، وقرية دمرة من جهة الشرق.
أمضيت ساعتين مع الشباب، أحاول أن أساعد في استخراج الجثث، ولفّها في بطانيات من أجل نقلها إلى المستشفى، ومن ثم إلى مثواها الأخير، أو في البحث عن بعض الأحياء. الكل يبكي والكل يندُب، خصوصاً أفراد العائلات الذين صادف أن كانوا خارج المنزل لحظة القصف ونجوا، وتقع عليهم مسؤولية البحث عن الجثث ودفنها، وحمل بقجة ذاكرة العائلة، والعبور بها وحيدين، وهم يشكلون عائلة جديدة.
من بين الركام، أمسكتُ أحد أجزاء "بلادنا فلسطين"، كان الغلاف ممزّقاً قليلاً لكن بلادنا فلسطين نجت
حفرْنا مطوّلاً فوق الغرف التي يقع فيها بيت رائد، الشاب الذي أخذ يلملم ما وجد من بقايا أوراق العائلة في كيس. أي شيء يبقى من أثرهم يكفيه ليصبح كنزاً يشمّ منه رائحتهم. قال وهو يبكي إنهم كانوا يجلسون هنا. أشار إلى مكانٍ قال إنه غرفتان متجاورتان. بات أكثر يقيناً حين استطعنا أن ننبش في التراب، وبدأنا باستخراج كتبٍ قال إنها مكتبة والده في صالون البيت. سلسلة موسوعة "بلادنا فلسطين" لمصطفى الدبّاغ، وكتب عن التراث وأخرى عن التداوي بالأعشاب. مسكتُ أحد أجزاء "بلادنا فلسطين"، كان الغلاف ممزّقاً قليلاً لكن بلادنا فلسطين نجت. أثواب والدته المطرّزة ممزّقة، لكنها لا تزال تحمل بهجة الفرحة التي ارتدتها فيها، وهي تحتفل بتاريخ قريتها وذكريات أجدادها.
بدأنا الحفر في الرمال، تحت سطح أسمنتي سقط بشكل كامل. قال: تحت هنا الغرف... فجأة وجدنا رأس فتاة مع جزءٍ مع صدرها. الرأس مهشّم والصدر ممزّق. لففناه ببطانية، وواصلنا البحث عن بقية الجسد. شعرْنا بغصّة وألم ووجع، ونحن نجمع القطع الصغيرة للجسد الذي مزّقته الطائرة إرباً. أخذنا نزيح الرمل من كل جانب، في محاولة إيجاد أجزاء من أجساد أخرى، من دون فائدة. تشاركت، أنا وشابٌّ، في قطع أسلاك حديد تسليح أحد الأعمدة حتى نتمكّن من إزاحته. نجحنا، لكننا لم ننجح في استخراج شيء. تناول رائد ألبوم صور العائلة. كأنه أراد أن يتفقّد الصور، لكن الحزن غلبه، فوضعه في الكيس، ومضى يفتح علبة صغيرة فيها بعض أوراق العائلة.
على كومةٍ عاليةٍ من الركام، صاح شابٌّ إنه سمع صوتاً من أسفل الركام يئن. "شششششششششششش" صرخ، حتى نسكت جميعاً ونصيخ السمع، لعل صوتاً فعلاً يكون أسفلنا. فجأة، صاح الجميع: نعم هناك شيء يصدُر من أسفل. أمضينا أكثر من نصف ساعة، نحاول الوصول إلى فتحة أو ثقب في المنطقة التي يصدُر منها الصوت، حتى يدخل منه إليه الأكسجين. بتنا متيقنين أنه رجل. نجح الأمر، بعد أن جاء رجالات الدفاع المدني بخبرتهم، وليس بفطرتنا التي تعتمد على السليقة التي لا تساعد كثيراً. ثم جاءوا بأسطوانة غازٍ وضعوا خرطوماً في طرفها ومدّوه من الثقب الذي فتحناه، والذي تحوّل إلى هوّة معقولة، وضخّوا الأكسجين داخله. ثم بعد جهد متواصل، تمكّنوا من رؤية الشاب الذي يستند إلى عمود سفلي يقاوم من أجل البقاء. مضى وقت والكلّ يحاول، والكلّ يصرُخ، والكلّ يعطي التعليمات، حتى رأينا يد الشاب تصعد من جوف الأرض. صرخ شابٌّ يبدو خبيراً في الأمر: لا تشدّوا ذراعه فيتقطّع جسده. ... رويداً رويداً، تم مساعدة الشاب على الصعود، ومن ثم جرى وضعه على شيالة، أحضرها رجل الإسعاف، وسرنا به إلى ما تبقى من الشارع، حيث تقف سيارة الإسعاف، لتنطلق به إلى المستشفى.
الليل مثل النهار مليء بالقصف والانفجارات. وبالتالي، لا راحة فيه، كما أنك لقلة النوم تشتهيه ولو لدقيقة وقتما يدهمك
كان ابني ياسر هنا لحظة القصف. كان في الزقاق، حين تساقطت الحجارة عليه، فوضع يديه فوق رأسه، وهرب باتجاه بيت جدّه. خرجت الناس إلى الشوارع لا تعرف أين القصف، ولا ماذا حدث. الغبار والدخان يلفّان الحارة، والكل يحاول أن يفهم ما يجري. استغرقهم الأمر ربع ساعة، حتى تبيّنوا أن منطقة السنايدة في الحارة جرى قصفها وتسويتها بالأرض بشكل كامل.
سيُخبرني ياسر أنه ساعد في إنقاذ بعض الأشخاص أول نصف ساعة، ثم شعر بالتعب، فرجع إلى بيت جده. بعد ساعتين من العمل والحفر ورفع الركام، شعرتُ بإعياءٍ شديد. كانت الشمس قد تركت خلفها ظلالاً حمراء قانية تشبه الدماء التي شربتها الأرض، والبقع الطاهرة التي تنتشر في كل مكان حولنا. وقفتُ على منطقة ركام مرتفعة، أنظر إلى المشهد بحسرة من يعرف أن هذه نهاية قاسية. الحارة التي نعرف لم يعد جزءٌ عزيزٌ منها موجوداً، والأزقّة التي شهدت الكثير من طفولتي وشبابي لم تعد قائمة.
أخذتُ أنظر حولي. ولولا ذاكرتي المرتبطة وثيقاً بالمكان، لم أعرف وسط هذه الضوضاء مواضع البيوت، وأماكنها، ولا حدودها، وممرّات الأزقة، والشوارع الملتوية مثل الأحشاء فيها. لا شيء بقي كما هو، حتى البيت على جانبي منطقة الدمار تطايرت جدرانه، وبدا مثل شرفات مسرح روماني تطلّ على الجمهور، وكنا نحن الجمهور المثقل برتابة الموت، وبشدّة وقع الفقد، وغليان الحنين.
كل يوم نصحو، فنكون قد نقصنا ونكون أقلّ مما كنّا عليه قبل أن ننام
في شارع الحارة، بدا الكلّ مذهولاً وهم يروون ما جرى معهم لحظة الانفجار، وأخذوا يردّدون قصصاً عن اللحظة الرهيبة. دكّت المخيم تسعة صواريخ، ودمّرت كل ما وقعت عليه وفي محيطه، وصنعت ست حفر رهيبة تغوص الواحدة منها في الأرض عشرات الأمتار. أكلت كل شيء ولم تُبق لنا إلا الخراب والدمار والركام. أخذت أسمع القصص عن النجاة بالمصادفة، وعن العبور السريع من الزقاق الذي جعل الوصول إلى القليل من الأمان أشبه بالمعجزة. تشبه قصص الناجين قصص الأموات، لو عادوا من الموت وسردوا لنا كيف لم يكن الموت بهذه القسوة، لكنهم مذهولون مع ذلك من أنهم عادوا.
في الليل، لا يوجد ما نفعله ولا ما نقوله. بدا الكلّ متألماً، ونحن ننظر في الضوء الخافت الذي وفّرته البطارية الصغيرة في حبر العتمة الذي يحيط بنا. تسلّل الكلام بثقل لصمتنا المطبق، ووجدت الكلمات مكانها بشقّ الأنفس إلى شفاهنا، ونحن نحاول أن نتبادل أخبار من رحلوا ومن بقوا ومن نجوا. ابن أدهم الفتى الذي لم يبلغ العشرين، وكان في طريقه إلى منزل عمّته في المنطقة، وقع على الأرض من شدّة الانفجارات، ثم زحف نحو أحد الأزقّة البعيدة. والآن، بعد أكثر من خمس ساعات، لم يتكلم كلمة واحدة. أصيب بصدمة يحتاج وقتاً للخروج منها.
شعرتُ بلزوجة جسدي من شدّة العرق والتصاق ملابسي به. حين عدتُ من موقعة المذبحة، غسلتُ يدي المليئتين بالشحبار والغبار والأوساخ، في شقّة أخي إبراهيم في بيت العائلة، ونظفت ملابسي مما علق بها بمسحها بالماء. كنتُ أشعرُ بأنني عدتُ من الموت، وبأنني بحاجة لما يجعلني أصدّق أنني حي أرزق. لا شيء حولي يساعد، فوجوه الناس عابسة، وتقاطيعها ومعالمها كئيبة، والمخيم يبدو حزيناً أكثر بكثير مما تشير إليه كلمة الحزن، أو أي من مرادفاتها.
في الصباح، قبل ساعاتٍ وصلتُ إلى بيت الصحافة. كان بلال يجلس مع أبو سعد على الباب، يتمتّعان بالشمس الخفيفة التي بدأت تصعد من الشرق. جلستُ بجوارهما، وأخذنا نتحدّث عن الليلة الماضية. نتحدّث عن الماضي، لأن لا حاضر لنا فكل ما يجري هو جزءٌ من ذلك الماضي الذي سيكون. سيغادر أبو سعد عبر معبر رفح بعد قليلٍ، بعد تنسيق خروج حملة الجوازات الأجنبية. بدا أكثر بشاشة، وهو يقول إنه سيتواصل معنا وسيظلّ يدعو لنا بالنجاة. ركب السيارة ورفع السائق الراية البيضاء، وسار عبر شارع الرشيد باتّجاه الجنوب، سالكاً طريق البحر. بقيتُ أنا وبلال وحيديْن، مثل من يجلس على الكورنيش ينظر إلى بحرٍ غير موجود. لا بحر. لا حياة. لا أحد يعبُر الطريق. فقط كلبٌ يشعر بالذعر بسط ذراعيه، وقعد جانبنا يستأنس بنا.
نبحثُ عن بقايا جثثنا الممزّقة والموزّعة في الأزقة الضيقة، أو فوق أكوام الركام
قلت لبلال: "اشتقت لنفسي. اشتقتُ أن أرجع إلى عاطف". بدا كل شيء كئيباً حتى حوارنا. الإنترنت والاتصال مقطوع، ونحن معزولون عن العالم. نتبادل القلق والهمّ والخوف فقط. ذهبتُ إلى سوبرماركت مترو على بعد عشرات الأمتار، من أجل أن أشتري ما سآكله اليوم. كانت الأبواب الكبيرة المبهجة دائماً مغلقة، والناس تدخل من باب خلفي، بعد أن تعبُر ممرّاً طويلاً. السوبرماركت مكتظُّ، والناس تتناول البضائع من على الرفوف ومن ثلاجّات البيع. طوابير تصطفّ أمام صندوق الدفع. تبضّعت ما يكفينا ليوم، وقلتُ: غداً رزقُه غداً.
يسألني ياسر ما إذا كنا سنعود إلى رام الله اليوم، فقد سمع أن المعبر قد فتح. قلتُ: لحملة الجوازات الأجنبية... بدأ الفتى الذي لم يبلغ السادسة عشرة يشعر بالتعب مع قرابة شهر من الحياة تحت القصف والتهديد والركض والاختباء والنجاة مصادفة. كم مرة سيخطئنا الموت وننجو. قبل ساعة، جاء الإنترنت وبدأت الحياة تعود إلى بعض تفاصيلنا. تتحدّث الأخبار الآن عن قصف ومذبحة جديدة غرب المخيم في منطقة الفالوجا. ومرّة أخرى، يعود القلق الذي اختبأ دقائق تحت سجادة الحديث اليومي. كان ثمّة شعور غريب بأننا باقون رغم كل شيء، بأن ما يجري، مهما بلغ وارتفع، لن ينتقص موجُه منا أو يدفعنا إلى الفناء. كنت أتذكّر كل ما عرفتُ من التاريخ لأعود وأسرد حكايتي الخاصة، حيث كان يجب أن أموت أكثر من مرّة ونجوت، ولولا نجاة جدّتي عيشة وجدّي إبراهيم خلال النكبة لما كنتُ روحاً في هذا العالم. دائماً ثمّة بقاء أشدّ عزماً من الفناء.
2 نوفمبر
لا ننام. ننتظر الليل حتى ينجلي ويطلع ضوء الصباح، فننعم بالنجاة ولو مؤقتاً. الموت بات هو حاكم المدينة وصاحب السطوة فيها. وصار يتجوّل ويتبضّع. يصطاد من يريد منا وفق أهوائه. كلنا مثل فراخ تنتظره في القصف، ليذبحها. يخطفنا واحداً واحداً. كل يوم نصحو، فيكون قد نقص بعضنا، ونكون أقلّ مما كنّا عليه قبل أن ننام. والليل أشدّ ما نخشى ونخاف، ففيه نموت في مجموعاتٍ كبيرة، وفيه يعلو القصف ولا نرى شيئاً، ونسير في ظلمته، نبحثُ عن بقايا جثثنا الممزّقة والموزّعة في الأزقة الضيقة، أو فوق أكوام الركام أو بين ثنايا التجاويف الإسمنتية. نموت لأن الموت يريد ذلك، ونحيا لأنه لم يُرد. لا يخطئ فقط. هو يتجوّل ويمد ذراعه القاسية على رفوف الحياة، يلتقط منها وينتزع ما تقع عليه يداه. لا حياة بدون هذا الموت، فنحن ننتظره. ليس ترقّباً ولا حباً باللقاء المنشود، ولكن لأننا نعرف أنه وحدّه المؤكّد حولنا، هو الثابت ونحن الذاهبون. القاتل الذي يسخّر الموت لخدمته يريد لنا أن نفنى، ويريد للموت أن يكون عالمنا الوحيد. لذا، وحين تشرق الشمس، ونفرح قليلاً بأننا نجوْنا يوماً آخر نرقب النهار الذي يكون أقلّ وطأة، لأننا نرى ما حولنا، ونمشي قليلاً فنسمع الآخرين ونتبادل معهم ما يعرفون من أخبار سيّد المدينة (الموت)، ونعرف أين تقف الدبابات، وأين كان القصف قبل قليل.
كان الموت، في اليومين الماضيين، ثقيلاً كعادته، لكن بقعه الداكنة أشدّ إيلاماً على أجسادنا. في الطريق إلى المخيم، عبرتُ من منطقة الفالوجا لأطمئن على أصدقائي الذين يسكنون هناك. في الشارع الواصل بين أبو شرار ودوار الشهداء الستة، كانت الطائرات قد محت عن الوجود ثمانية عشر بيتاً بشكل كامل. لم تُبق منها ولم تذر. كانت الأخبار تتحدّث عن قرابة مائة فقدوا تحت الأنقاض. كانت رائحة الاحتراق والدمار تملأ مدخل المخيّم الغربي، حيث حارة الفالوجا التي منحتها اسمها المدرسة الثانوية الأولى في المخيم التي أخذت اسمها هي الأخرى من قرية الفالوجا التي حوصر فيها جمال عبد الناصر خلال النكبة، فبات اسم المنطقة الغربية من المخيم الفالوجا. بدا الطريق الهابط من جهة البحر نحو دوّار السكناجي، وهو الرابط بين المخيم وبلدة النزلة غرباً، ساحة حربٍ، تنتظر المزيد من الدمار. سقطت كل أسلاك الكهرباء من شظايا القذائف، والكثير من البنايات مسّها الدمار، فترى شرفة نصف مدمّرة وعامود باطون معلقاً من أطراف البناية العلوية، وزاوية سور مهدّمة بشكل كامل، أو فيها نافذة تطلّ على مزيدٍ من الخراب. كانت الدبابات تطلق قذائفها على طوال الشارع الذي يبدأ فمُه عند البحر، وكنّا نسمّيه شارع البحر، لأنه طريقنا إلى الموج الغافي في عبّ الماء، حين كنا نمشي سيراً على الأقدام من المخيم إلى البحر، وسط أشجار الغابة والرمال الصفراء في ذلك الوقت.
كان مروان صديقي مغبّراً، وجهه أسود من كثرة الشحبار والسواد، وملابسه كذلك، يجلس على حجر من الركام. حضنتُه وهو يبكي والده الذي فقده في القصف، وأخواته اللاتي ذهبن مع أبنائهن وبناتهن. فقد مروان ثمانين من أفراد عائلته. لحسن حظه، أخذت زوجته طفلهما الذي لم يبلغ نصف عام، وقررت اللجوء عند عائلتها فنجيا. يبكي مروان، وهو يعدّد أسماء من رحلوا، ويعدّد أصحاب البيوت من أفراد عائلته وعائلة الحنّاوي المجاورة لهم. لا شيء يمكن أن يخفّف سوى التفكير في أن هذه المأساة سوف تنتهي يوماً ما، وأن هذا اليوم فقط وحده قد يشعرنا بقليلٍ من الرضا. كان الشبّان مشغولين بمحاولة إزالة الركام عن بعض الأجسام المقطّعة، طامعين أن تجود عليهم الحجارة المهدّمة بجسدٍ لناجٍ أخطأه الموت.
الانتفاضة الأولى انطلقت من مخيم جباليا وكان عرفات يحرص على زيارة والدة أول شهداء الانتفاضة
تحمل المذبحة الجديدة صدى المذبحة التي وقعت قبلها بيوم، وبدت تواصلاً لمسلسلٍ كبير يستهدف المخيم بشكل أساسي. مخيم جباليا أكبر مخيمات قطاع غزّة وأكثرها اكتظاظاً، وهو معروف بشكل واسع في مراحل تاريخ الثورة الفلسطينية، بدوره الريادي في النضال في وجه الاحتلال. ولعل حقيقة أن الانتفاضة الأولى انطلقت منه واستشهد فيه ومنه أول شهدائها رسّخت هذه الصورة. كان ياسر عرفات يحرص كل عيد أن يأتي لمعايدة والدة أول شهداء الانتفاضة، حاتم أبو سيسي، في حارتنا، كما كانت مدرسة الفالوجا أول مكان زاره أبو عمّار بعد استقراره في غزّة، وألقى هناك خطبة قوية، ونزل وأشعل الدبكة التي كانت تعرض أمامه، وهو "يدبك" مع الشباب. ظلّت هذه الصورة من أكثر الصور إيثاراً في ذاكراتنا الشابّة وقتذاك.
إنهم يستهدفون المخيّم بشكل مباشر. فبعد المذبحة الكبرى في منطقة السنايدة في حارتنا، وقبل أقل من 24 ساعة تقع مذبحة أخرى، هذا من دون أن تتوافق المجازر والقصف والاستهداف. عرفتُ أن البناية التي تقع فيها شقّتي قد أصابتها قذيفة، ولم يعد أحد يقيم في البناية. كل الجيران تركوا شققهم وبحثوا عن مكانٍ أكثر أمناً، كما يفعل الآخرون. وفي غزّة، لا مكان آمن، ولا مكان أكثر أمناً، ولا أحد يمكنه أن يهرُب من الموت. كنت قبل ذلك قد أخذتُ ما تبقّى من صور العائلة والبراويز التي زينت الشقة طوال السنوات الماضية، وصارت جزءاً من ذاكراتنا المشتركة، واحتفظت بها في السيارة، خشية أن يطال القصف العمارة. يساعد الحفاظ على بعض الذاكرة في ترميم البقية الأخرى منها. كنت أتخيّل، لو هدمت الشقّة سأفقد مكتبتي. وكنتُ أفكّر كيف يمكن لي أن أنقذ كتبي. المشكلة في المكان الذي يمكن أن احتفظ فيه بها، فكل البيوت غير آمنة، وحفظ الكتب في مكان لا يعني أنها ستكون محميّة. باتت السيارة التي نتنقل بها مخزناً مؤقّتاً لكل أشيائنا. فيها حقيبة السفر التي تضم ملابسنا، وفيها بعض طعامنا الذي نشتريه من وقت إلى آخر. طبعاً لا داعي لحفظه في مكان آخر، إذ لا يوجد كهرباء، وبالتالي، لا فائدة من الثلاجات والبرّادات. وأحتفظ فيها أيضاً بكل تلك الأشياء العزيزة التي أخرجتها من الشقّة خشية دمارها، وفيها أيضاً فرشتان ومخدّات وأغطية خفيفة للنوم. ذلك كله في الخلف، حيث يجلس ياسر، حاشراً نفسه بعد أن يجتهد ليصنع له مكاناً في هذه الزحمة.
في الليل، وبعد أن انتهينا من العشاء، وسماع بعض الأخبار عبر الراديو الذي يفتحه فرج من خلال هاتفه النقال، حاولنا أن ننام. النوم الآن يمكن أن يكون في أي وقت. النوم فقط هو ما نحتاجه. انتهت فكرة أن تنام في الليل وتصحو في النهار، فالليل مثل النهار مليء بالقصف والانفجارات. وبالتالي، لا راحة فيه، كما أنك لقلة النوم تشتهيه ولو لدقيقة وقتما يدهمك. وأنا في مرّات كثيرة أرجو النوم أن يأتيني. مستعدٌّ أن أقدّم له رشوة من أجل أن يهزمني ويغلب عينيّ.
تمدّدتُ على الفرشة. كانت الساعة الثامنة والنصف. وربما طوال حياتي التي أتذكّر آخر ثلاثين سنة منها لم أنم في مثل هذا الوقت المبكّر، حتى إنني لم أكن أفكّر أن أنام في مثل هذا الوقت. تمدّد أدهم على فرشته، وقلنا لنحاول أن ننام. كان الإنترنت يعطي إشارة غير منتظمة، وكان هذا مشجّعاً لنُغمض عيوننا، وندعو النوم ونرجوه أن يهبط عليها بعنف، لكنه لم يهبط وظللنا نبحلق في عتمة السقف وعتمة الشارع عبر النافذة، ولكن من دون أن نتحرّك عن الفرشة، حتى نشعر أنفسنا ونخدعها بأننا نائمون. لا نفعل من النوم غير الاسترخاء، غير عابئين بصوت القصف وهدير الدبّابات الذي صار يبدو أقرب من خيالنا، أو لعلّ خيالنا أكثر حقيقة مما يجري. فجأة دوّى انفجار عنيف هزّ الحارة. تطايرت بعض آنية المطبخ. ولحسن حظّنا، أننا رفعنا الشبابيك، فلم يعد ثمّة زجاج يمكن أن يتطاير فوق رؤوسنا.
كان عمل المسعفين مؤلماً، لأن عليهم أن يسيروا مسافات طويلة في أزقّة ضيقة، لا يزيد عرض بعضها عن متر، وفي أحسن الأحوال قد يصبح ثلاثة أمتار
كالعادة، سأنتظر، أنا وأدهم، حتى نسمع صوت الشباب في الحارة قد خرجوا، لنقف على الشبّاك ونسمع ما يقولون، ونسألهم ونتحدّث معهم عن مكان القصف، ليبادلونا أي معلوماتٍ قد يعرفونها. بعد خمس دقائق، كان صوت عرب (أحد أبناء عمومتي) الجهوري يقول إن القصف على آخر الشارع. وقفنا نطلّ من النافذة. بدأت سيّارات الإسعاف والدفاع المدني بالتحرّك من مربضها على طرف شارع الحارة باتجاه الشرق، حيث العمارة المكوّنة من خمسة طوابق التي استهدفها القصف. العمارة نعرفها بعمارة عنبر، نسبة لعائلة عنبر. كما أصاب القصف بشكل كامل عمارة لعائلة أبو علبة، فسقطت العمارتان بشكل كامل. وفي الحارة يقدّرون أن 150 شخصاً موجودون فيهما. كان صالون الحلاقة الخاص بإخوة أدهم بجوارهما. سمع أدهم أحدهم يقول إن القصف بجوار صالون الشعراوي، (في الحقيقة اسمه صالون الموناليزا)، فنزل هرولة إلى الشارع حتى يستفسر لعلهم يقولون بيت الشعراوي. في الشارع، عرفنا بقية التفاصيل. كان الركام يغطّي الشارع بشكل كامل ويغلقه، وكانت سيارات الدفاع المدني تحاول رفع بعض الأسطح الإسمنتية التي تحرم الأطفال والنساء والرجال الحياة. جرى إنقاذ طفلة بالكاد عمرها ستة أشهر. استمرّ العمل فترة، ووجدتُ أن أذهب لأمارس رغبتي في محاولة إقناع النوم بأن يغزو عينيّ. عدت أنا وأدهم إلى الغرفة. أشعل أدهم سيجارة، فرجوْته ألا يشعل أخرى. فتح الراديو عبر جواله وغفا. ظل المذيع ينقل الأخبار بصوت خفيض، فيما أدهم نائم بشكل كامل، وأنا أبحلق في العتمة.
أظنّني نمتُ قليلاً. لأنّ ثمّة وقتاً لا أعرف كيف مرّ، ومثل هذا الوقت يكون وقت النوم. أفقنا مفزوعين على صوت انفجارٍ ضخم. ظننتُ أن بيت فرج، حيث نبيت، قد ضُرب بشكل مباشر، أو أن إحدى البنايات بجواره هي المستهدفة. نظرتُ أمامي، فكانت العمارة الكبيرة التي تعود إلى أفرادٍ من عائلتي واقفة منتصبة عبر النافذة، والستائر البيضاء في الطابق العلوي فيها تتمايل مع الريح، نظرتُ شمالاً ومن نافذة المطبخ، رأيتُ نورا ينوسُ في غرفةٍ في البناية المجاورة. وقفنا وسرنا نحو النافذة. كل الحارة خرجت إلى الشارع والكل يسأل: أين القصف؟ وين؟ في أي شارع؟ ثم يسأل أحدهم الآخر: مش جنب دارك؟ ولّا دارك؟ وهي أسئلة من أجل التأكّد من مكان القصف. نزلنا إلى الشارع. أضأتُ مصباح جوّالي كما فعل الجميع. كان شارع الحارة مثل مسيرة شموع في ليلة حالكة، فالكلّ يضيء مصباح جوّاله. والكل ينقل الضوء من منطقة إلى أخرى، في محاولة استكشاف موضع القصف. في آخر المطاف، سرنا خلف رائحة الحديد المصهور، وتتبّعنا مصدر الغبار الثقيل المحمّل بالأتربة ورذاذ الحجارة وهبائها.
سرنا في الطريق الواصل بين منتصف شارع الحارة ونهاية بلوك 7، حيث مدارس أبو حسين التي تعرّضت لمذبحة رهيبة في حرب 2014. كان الغبار والرائحة يقودانا إلى منتصف الشارع. توقّفنا حيث بدا أن القصف في الجزء الداخلي من الحارة. جاءت سيارات الإسعاف، وبدأنا نتداول ما بتنا نعرف من حقائق عن القصف الذي استهدف مجموعة بيوت في قلب الاكتظاظ العظيم.
واصلنا تسليط أضواء هواتفنا نحو الأزقّة، حتى نساعد طواقم الدفاع المدني في استكشافها. لم أكن أعرف المأساة الكبيرة بعد.
كنتُ أحاولُ تهدئة طفل لم يبلغ العاشرة خرج ركضاً من الزّقاق المفضي إلى الركام، وهو يقول "بدي أمي". حاولنا إدخاله في سيارة الإسعاف، رفض وهو يصرّ أنه يريد أمه. صبغ النعاس عينيه بلون أحمر فاقع، شعره مليء بالغبار وجسده متعب، إذ حين وضع الممرّض يده على كتفه صرخ. جاءت مجموعة مسعفين يحملون سيدة على نقالة وأدخلوها في سيارة الإسعاف. سألنا الطفل لم تكن أمه. استهدف القصف، كما عرفنا، خمسة بيوت بشكل أساسي، بجانب البيوت التي تضرّرت. ثم جاء مسعفون آخرون يحملون سيدة أخرى صاح الطفل: هاي ماما هاي ماما. وذهب ليجلس بجوارها في سيارة الإسعاف. كان ثمّة طفلان آخران يبدوان قد خرجا من هوّة في جوف الأرض يجلسان حول النقالة التي تتمدّد عليها. كان عمل المسعفين مؤلماً، لأن عليهم أن يسيروا مسافات طويلة في أزقّة ضيقة، لا يزيد عرض بعضها عن متر، وفي أحسن الأحوال قد يصبح ثلاثة أمتار. لذلك كانت سيارات الإسعاف تقف بعيداً عن موضع القتل والموت والدمار.
تُحاول العائلة الفلسطينية أن تحمي نفسها من الانقراض، فإذا أصاب الخطر فرداً من العائلة لا يصيبها كلها. على أحدهم أن يظلّ حياً يروي الحكاية
بدأتُ بالسّعال، وبدا أن وجودنا لا لزوم له، فمشيتُ، أنا وأخي محمّد وعرب، وبعض شباب العائلة، وعدنا إلى شارع الحارة.
وقتها، لم يعرف أدهم الذي ركض مثلنا ليساعد في مساعدة المنكوبين تحت الركام أنه ذاهب ليحمل ابنه البكر وأمه وأخته سماح، ويذهب بهم إلى المستشفى أمواتاً. وكان ابنه عبد قد أصيب قبل يومين في المذبحة الكبيرة في الحارة، حين كان يذهب لزيارة أقارب لهم، ووقع على الأرض وظل عاجزاً عن الكلام ست ساعات، وهو مصاب برضوض حملت والده على مداواته في البيت، حتى يفسح المجال أمام المصابين بجروح أكثر خطورة. استُشهد عبد اليوم، بعد أن قرّر أن يذهب، بحثاً عن النجاة، ليبيت في منزل جدّته الذي تكدست فيه عمّاته وأولاده. يبيت أدهم معنا عند فرج وتبيت زوجته عند بيت عائلتها مع بعض الأطفال، وعبد يبيت عند جدّته. هكذا تحاول العائلة الفلسطينية أن تحمي نفسها من الانقراض، فإذا أصاب الخطر فرداً من العائلة لا يصيبها كلها. على أحدهم أن يظلّ حياً يروي الحكاية. أُسقط علينا، ونحن نشعرُ بالتعب والألم، ونحن نتذكّر كل تلك الأيام، ونتخيّل عذابات أدهم، وهو يحمل ابنه إلى القبر بعد ساعات. هاتفتُه. كان يبكي ويبكي، وهو يندُب حظه، ويقول إن الموت لم يتملّك منه يوم المذبحة، لكنه فعل هذه المرّة.
الموت سيّد المدينة، وسيّد المكان أيضاً. وقرب الفجر أخذ أخت ماهر، زوج أختي، وزوجها وأطفالها الثلاثة، حيث استهدف صاروخ شقّتهم وقتلهم جميعاً. كان صوت عيشة يرجف، وهي تخبرني بالقصة. كنتُ قد تركت ملابس عند عيشة حتى تغسلهم في الغسّالة لتوفر الكهرباء عندها، بسبب الطاقة الشمسية، وكنت أنوى الذهاب عندها من أجل لبسها. كان الألم يخيّم على وجهها. ماهر مع أبيه وإخوته يدفنون العائلة التي مُسحت، وعيشة تُمسك الدموع في عينها حبيسة بوجع ووجهها شاحب وهي تسأل: ألم يحن وقت التوجّه جنوباً؟ قلت: الله الغالب. وخرجتُ أعدّ العمارات الباقية في الحارة، وأسأل من منها سيزول.