يعشق أهالي بغداد صوت المطارق. ويتفاعلون أكثر كلّما ارتفع صوتها. والفضلُ لـ "الصفارين"، الذين زرعوا في الناس حبّ ضجيج مطارقهم. وليس مستغرباً أن يعشق قاصد سوق الصفارين في بغداد لأول مرة، ذلك الضجيج المكوّن من أصوات وإيقاعات مختلفة. تشكل جميعها سيمفونية تُعزفُ فقط في هذا السوق التاريخي.
لكن السوق أصبح من دون صوت. بقي منه اسمه فقط. اختفى صوت المطارق والنحاس بعدما هجره الصفارون. مهدي حافظ هو أحد هؤلاء. يقول إن "أسباباً كثيرة حالت دون استمراره وغيره من الصفارين في مزاولة هذه المهنة". يشرح أن "إهمال الحكومة للسوق دفع بأصحاب المحال إلى البحث عن مصدر رزق في مكان آخر"، مضيفاً "كان السوق حتى عام 2003، عام إسقاط نظام صدام حسين، يعج بالزبائن. لكنه بدأ يفقد بريقه تدريجياً بعد هذا التاريخ". ويشير إلى أن "الجنود الأميركيين والقوات الأخرى التي شاركت في احتلال العراق ساهموا في تنشيط السوق حينها. كانوا يشترون الأواني والأباريق وغيرها". ويؤكد حافظ الذي ترك مهنة تعلّمها في العاشرة من عمره، ليعمل سائق باص في إحدى الشركات، أن "أصحاب السوق لطالما ناشدوا المسؤولين حماية سوقهم من الزوال. كنا نسمع تطمينات بالمساعدة لا أكثر. لم نكن نطالب إلا بتخصيص رواتب لأصحاب المحال، أو توفير النحاس بسعر مدعوم، أو فرض ضرائب على المنتجات النحاسية المستوردة". ويرى أن "الجهات الحكومية تسببت بنهاية سوق هو من أقدم الأسواق في العالم".
من جهته، يقول عباس حامد، الذي يملك محلاً لبيع الأنتيكة، إن "إعادة الحياة إلى السوق يمكن أن تتحقق مع استقرار الأوضاع الأمنية". ويرى أن "غالبية الصفارين ينتظرون هذا الاستقرار ليعودوا إلى محالهم التي هجروها، على أمل أن يعود السياح أيضاً". ويتابع حامد، الذي يعتبر أن انتعاش سوق الصفارين يعني انتعاش سوق الأنتيكة، أن "العائلات الميسورة هي التي تقتني النحاسيات عادة. لكن هؤلاء غادروا العراق بحثاً عن الأمان".
القصص كثيرة. وسام العزاوي تحول إلى بائع للنحاسيات فقط. يقول لـ "العربي الجديد": "بعد احتلال العراق، عملت مترجماً مع شركة أميركية. وبسبب خبرتي في الصناعات النحاسية، صرتُ أبيعها في سوق الصفارين إلى الأجانب". ويلفت إلى أن "خوف الأجانب من الخطف والقتل من قبل المسلحين كان يمنعهم من التجوال في الأسواق. فيطلبون مني بعض النحاسيات أو مجسمات لآثار أو أعمال تراثية". يضيف: "أشتاق كثيراً لعملي وأنتظر عودة الحياة إلى سوق الصفارين". ويُتابع العزاوي أن "رواد السوق كانوا يقفون ليستمتعوا بطريقة نقشه وسماع رنات مطرقته وهي تضرب على النحاس لترسم نقشة ما". يضحك وهو يستذكر كيف كان يتعمد أحياناً إصدار نغمات لأغنيات مشهورة أثناء الطرق، وخصوصاً أغنية فيروز "تك تك تك يا أم سليمان". يتابع: "كان الناس يتجمهرون حولي ويستأنسون بذلك".
أما الصفار خالد القيسي، فيقول إن "البحث عن مصدر رزق لعائلته فرض عليه ترك عمله"، مشيراً إلى أن جميع الصفارين "لا يملكون راتباً ثابتاً أو مصدر رزق آخر". يضيف لـ "العربي الجديد" أن "بعضهم باعوا محالهم"، مشيراً إلى أن "الصفارين لم يعتقدوا يوماً أن يسوء حالهم كما هو الآن"، مؤكداً أن "الرئيس الراحل صدام حسين دعم الصفارين بهدف الحفاظ على السوق. وفرض على أمانة بغداد التي تملكه عدم رفع الإيجارات التي كانت رمزية في ذلك الوقت".
صفر
من جهته، يشرح الباحث في التراث العراقي، جاسم البغدادي، لـ "العربي الجديد" أن "تسمية الصفارين جاءت من الصفر أي النحاس". يضيف: "يعود تاريخ إنشاء السوق للعصر العباسي، وتحديداً عهد خلافة المستنصر بالله (1226 - 1242) الذي بنى المدرسة المستنصرية، حولها أسواق متخصصة منها سوق الصفارين". ويبيّن أن "المسؤولين عن الجنود في ذلك العهد كانوا يأمرونهم بالمرور في السوق كي تعتاد خيولهم على الأصوات المرتفعة الصادرة عن الطرق على النحاس، ما يمنحها القدرة على الثبات في المعارك".
ويشير البغدادي إلى أن "السوق كان يزود قصر الخليفة والمدرسة المستنصرية بمواد الطبخ من قدور وأوان مختلفة، إضافة إلى الفوانيس والمواد المنزلية من أباريق وغيرها. كما أنه كان متاحاً لجميع أهالي بغداد وزوارها، فيشترون منه ما يرغبون". يضيف أن "الصفارين كان يعد أحد أهم الأسواق في جميع البلدان الخاضعة للخلافة الإسلامية". ويختم حديثه قائلاً إن "سوق الصفارين لن يموت. ينتظر من يعيد إليه ضجيجه".
لكن السوق أصبح من دون صوت. بقي منه اسمه فقط. اختفى صوت المطارق والنحاس بعدما هجره الصفارون. مهدي حافظ هو أحد هؤلاء. يقول إن "أسباباً كثيرة حالت دون استمراره وغيره من الصفارين في مزاولة هذه المهنة". يشرح أن "إهمال الحكومة للسوق دفع بأصحاب المحال إلى البحث عن مصدر رزق في مكان آخر"، مضيفاً "كان السوق حتى عام 2003، عام إسقاط نظام صدام حسين، يعج بالزبائن. لكنه بدأ يفقد بريقه تدريجياً بعد هذا التاريخ". ويشير إلى أن "الجنود الأميركيين والقوات الأخرى التي شاركت في احتلال العراق ساهموا في تنشيط السوق حينها. كانوا يشترون الأواني والأباريق وغيرها". ويؤكد حافظ الذي ترك مهنة تعلّمها في العاشرة من عمره، ليعمل سائق باص في إحدى الشركات، أن "أصحاب السوق لطالما ناشدوا المسؤولين حماية سوقهم من الزوال. كنا نسمع تطمينات بالمساعدة لا أكثر. لم نكن نطالب إلا بتخصيص رواتب لأصحاب المحال، أو توفير النحاس بسعر مدعوم، أو فرض ضرائب على المنتجات النحاسية المستوردة". ويرى أن "الجهات الحكومية تسببت بنهاية سوق هو من أقدم الأسواق في العالم".
من جهته، يقول عباس حامد، الذي يملك محلاً لبيع الأنتيكة، إن "إعادة الحياة إلى السوق يمكن أن تتحقق مع استقرار الأوضاع الأمنية". ويرى أن "غالبية الصفارين ينتظرون هذا الاستقرار ليعودوا إلى محالهم التي هجروها، على أمل أن يعود السياح أيضاً". ويتابع حامد، الذي يعتبر أن انتعاش سوق الصفارين يعني انتعاش سوق الأنتيكة، أن "العائلات الميسورة هي التي تقتني النحاسيات عادة. لكن هؤلاء غادروا العراق بحثاً عن الأمان".
أما الصفار خالد القيسي، فيقول إن "البحث عن مصدر رزق لعائلته فرض عليه ترك عمله"، مشيراً إلى أن جميع الصفارين "لا يملكون راتباً ثابتاً أو مصدر رزق آخر". يضيف لـ "العربي الجديد" أن "بعضهم باعوا محالهم"، مشيراً إلى أن "الصفارين لم يعتقدوا يوماً أن يسوء حالهم كما هو الآن"، مؤكداً أن "الرئيس الراحل صدام حسين دعم الصفارين بهدف الحفاظ على السوق. وفرض على أمانة بغداد التي تملكه عدم رفع الإيجارات التي كانت رمزية في ذلك الوقت".
صفر
من جهته، يشرح الباحث في التراث العراقي، جاسم البغدادي، لـ "العربي الجديد" أن "تسمية الصفارين جاءت من الصفر أي النحاس". يضيف: "يعود تاريخ إنشاء السوق للعصر العباسي، وتحديداً عهد خلافة المستنصر بالله (1226 - 1242) الذي بنى المدرسة المستنصرية، حولها أسواق متخصصة منها سوق الصفارين". ويبيّن أن "المسؤولين عن الجنود في ذلك العهد كانوا يأمرونهم بالمرور في السوق كي تعتاد خيولهم على الأصوات المرتفعة الصادرة عن الطرق على النحاس، ما يمنحها القدرة على الثبات في المعارك".
ويشير البغدادي إلى أن "السوق كان يزود قصر الخليفة والمدرسة المستنصرية بمواد الطبخ من قدور وأوان مختلفة، إضافة إلى الفوانيس والمواد المنزلية من أباريق وغيرها. كما أنه كان متاحاً لجميع أهالي بغداد وزوارها، فيشترون منه ما يرغبون". يضيف أن "الصفارين كان يعد أحد أهم الأسواق في جميع البلدان الخاضعة للخلافة الإسلامية". ويختم حديثه قائلاً إن "سوق الصفارين لن يموت. ينتظر من يعيد إليه ضجيجه".