تجلسُ على كرسيٍّ صغير. تبدو خجلة، كأنها ارتكبت خطأً للتو. كانت تغطّي جسدها ورأسها بقماش أسود، قبل أن تُخرجُ شطيرة زيتون من حقيبتها المهترئة. أمّ النور من مدينة حلب، تجاوزت الثالثة والأربعين من عمرها ولجأت منذ تسعة أشهر إلى مدينة الريحانية التركية المحاذية للحدود السورية. تقولُ لـ "العربي الجديد": "كان خيارُنا البقاء والصبر، فضّلنا الموت تحت ركام منزلنا. إلا أن حملة البراميل المتفجرة حصلت في منطقة قاضي العكسر التي نسكنها، وكادت أن تودي بحياة أغلى ما لدي. لجأنا إلى تركيا وبحوذتنا قليل من المال وقلادة ذهبية وخاتم زواجي، لا غير".
تقول أمّ النور إنه "في لحظة، قد تنقلب الدنيا على رأسك. حين تسقط الصواريخ والقذائف من السماء، لا تستطيع إلا التفكير بالأطفال". انتقلت العائلة إلى أحد مخيمات اللاجئين المنتشرة على الحدود السورية ـ التركية، التي تطلق عليها اسم "علب الصفيح". لم تستطع البقاء أكثر من شهر لأن دورات المياه مشتركة.
تتذكر حياتها السابقة. كان لبيتها شرفة كبيرة زرعتها بأنواع مختلفة من الزهور. تقول: "لابد وأنها تفتحت الآن، أتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء، لأشرب فنجان قهوة على شرفتي عند غروب الشمس. وأسمعُ أغنية لأم كلثوم". تسكن اليوم في غرفة صغيرة. يجمعُ ولداها سامر (12 عاماً) والنور (16 عاماً) القطع البلاستيكية والكرتون والأوراق وغيرها من المواد القابلة للتدوير، ويحصلان على نحو عشرين ليرة تركية (نحو سبع دولارات) يومياً. أما هي، فتبيعُ المحارم. ينتظر الطفلان فرصتهما للالتحاق بالمدرسة مجدداً. أما زوجها، فيبيع السجائر، وقد أقعدته الحرب في كرسي متحرك..
قد تكون هذه العائلة أفضل حالاً من نحو 1.3 مليون طفل سوري لاجئ في مختلف البلدان، لا يتلق ربعهم التعليم منذ أكثر من سنة، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان. كانت الحياة في الحي الذي تسكنه أم النور أشبه بانتظار موت محتم. يقضون يومهم بالدعاء. تقول: "كنا ننزل إلى القبو أربع أو خمس مرات يومياً. لم تكن الطائرات تُغادر سماء حلب. ننام مرتدين ثيابنا خوفاً من أن نموت ليلاً، ونتحول إلى خبر تتناقله الفضائيات. لا أصدّق أنني خرجت من حلب على قيد الحياة".
تتذكر يوم المجزرة. تقول: "في ذلك اليوم، كنتُ عند أهل زوجي. بدأ القصف وصعدت إلى السطح مسرعة ورأيت اسطوانات معدنية تُرمى من الطائرة، والنوافذ والأبواب والأحجار تتطاير في الحارة". هرعتْ إلى منزلها وهي تنادي على ولديها. "حين وصلت، رأيت امرأة تبكي بعدما أصيبت والدتها في قدمها". رأت أشلاء أبو سليم، بائع الخضار، وكانت قد تشاجرت معه قبل يوم بسبب سعر الطماطم. لم يُصب ولداها بأي أذى. أما زوجها، فأصيب بالشلل. على الرغم من معاناتها، ترفضُ الهجرة غير الشرعية لعدم توفر المال، ولأنها لا تريد الهرب من "موت إلى موت". تحاولُ اليوم تسجيل اسمها وعائلتها لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
تجلسُ أم النور على الرصيف وتنتظر المساعدة. ليست وحدها من تنتظر. ما لا يقل عن 5.8 ملايين لاجئ موزعين في مختلف البلدان، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ينتظرون أيضاً. في السياق، تقول نور الخطيب من الشبكة إن "أعداد اللاجئين السوريين فاقت أعداد اللاجئين الفلسطينيين. ويزداد العدد مع استمرار القصف والدمار داخل سورية". وتشير إلى أن "90 في المائة من اللاجئين ينحدرون من المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة. وفي ظل عدم وجود حماية دولية لهذه المناطق، سترتفع وتيرة تدفق اللاجئين. وهذا هو الوجه الآخر للأزمة".
وعن أبرز المشاكل التي تُواجه اللاجئين، تقول الخطيب إننا "أمام كارثة حقيقية لناحية التعليم. هناك ما لا يقل عن 115 ألف طفل سوري ولدوا في دول اللجوء، 70 في المائة منهم من دون شهادة ميلاد. هذا يعني حرمان كثيرين من التعليم والرعاية الصحية". وتشيرُ الشبكة إلى أن اللاجئ السوري "يواجهُ تهديدات عنصرية من قبل المؤيدين للنظام السوري في مناطق مختلفة. وقد تعرّض اللاجئون السوريون في مصر بعد الانقلاب العسكري لحملات إعلامية". تضيف أن "السلطات المصرية ضيقت الخناق على الآلاف منهم، وطردت ما لا يقل عن ثلاثة آلاف لاجئ".
في المقابل، أنفقت كثير من الدول الديمقراطية مبالغ مالية ضخمة لمساعدة اللاجئين، لكنها عجزت عن استقبال السوريين على أراضيها. ويقول رئيس الشبكة فضل عبد الغني إنه "بدل وضع المزيد من العراقيل، يتوجب على الدول الأوروبية والأميركية تخفيف الحمل عن دول الطوق".
اقرأ أيضاً: السوريون أكبر مجموعة لاجئين في العالم