تعتبر مدينة واسط، التي تقع أطلالها جنوب شرقي العاصمة العراقية بغداد، خامس مدينة تمصّرت في الإسلام بعد البصرة، والكوفة، والفسطاط، والقيروان، وثالث مدينة عراقية بعد البصرة والكوفة. يطلق عليها محلياً المنارة، ووصفها الرحالة ابن بطوطة عندما شاهدها في القرن الثامن الميلادي بقوله: "مدينة حسنة الأقطار، كثيرة البساتين والأشجار، فيها أعلام يهدي إلى الخير شاهدُهم، وأهلها من خيار أهل العراق".
موقعها وتسميتها
تقع أطلال هذه المدينة التاريخية في الوقت الحاضر إلى الجنوب الشرقي من مدينة الكوت مركز محافظة واسط بحدود 65 كيلومتراً، وإلى الشمال الشرقي من مدينة الحي بحدود 20 كيلومتراً ضمن أراضي المنارة والسواويد. وأعلن عن أثرية المدينة في الجريدة الرسمية (الوقائع العراقية) عام 1935.
يعود سبب تسميتها بـ"واسط"، لتوسطها مدن البصرة والكوفة والمدائن والأحواز. غير أن بعض المصادر تشير إلى أن موضع مدينة الحجاج، وقبل مجيء الحجاج بن يوسف الثقفي إليها كانت تعرف بـ"واسط القصب" لأن أرضها كانت مزروعة بالقصب. ويعتقد بعضهم أنها سميت نسبة إلى قصر الحجاج الذي شيد فيها، والذي يتوسط المسافة بين مدينتي الكوفة والبصرة.
وكلف إنشاؤها خراج العراق لخمس سنوات متواصلات، أي نحو 43 مليون درهم. ورأى حاكم "واسط" أن من حسن الإدارة أن يتخذها مقراً لحكمه، كي يؤمن السيطرة والإشراف، وسهولة التحرك العسكري إلى البصرة والكوفة. وهذا يقدم لنا دليلا على أن بناء المدينة كان قبيل عام 83 هجري (701 ميلادية).
إلا أن المؤرخون اختلفوا في تاريخ بناء مدينة واسط، وحصر بعضهم تاريخها بين (75-83 هجرية) أي بعد أن أخمد الحجاج المعارضة والثورات التي قامت ضد الحكم الأموي، أي بين 80 إلى 81 هجرية، حسب بعض الآراء. إلا أن معظمهم يذكر أن عملية البناء تمت بين الأعوام (83هـ ــ 86هـ/ 702ــ 705م)، أي في أواخر حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. كما يرجح بعض الباحثين بناء مدينة واسط سنة 83هـ/702م، معززين رأيهم بما وصلهم من مسكوكات فضية (دراهم) مضروبة بهذه المدينة.
وتعد المسكوكات وثائق أساسية ومهمة جداً يعتمد عليها في تتبع مسيرة التأريخ، وفك الإشكالات والتداخلات التي تقع فيها كتابته. ويحتفظ المتحف العراقي بدرهم فضي مضروب في واسط عام 83هـ، كما ويحتفظ بدرهم آخر ضرب عام 84هـ.
أهميتها التاريخية
تعد واسط الأثرية من المدن الإسلامية الكبرى، بوصفها مربط خيل الفتوحات الإسلامية، بحكم موقعها الجغرافي بين مدن عصرها البصرة والكوفة.
وقدر لهذه المدينة أن تلعب دوراً حضارياً وسياسياً كبيرا في تاريخ العراق، وأصبحت لفترة طويلة من الزمن مركزا اقتصاديا مهماً، لأنها تقع على نهر دجلة من جهة، وتتوسط الكوفة والبصرة والمدائن والأحواز من جهة أخرى، ما يربط بين طرق التجارة النهرية والطرق البرية التي تجعلها ذات مركز تجاري مرموق، بالإضافة إلى الأراضي الزراعية الخصبة المحيطة بها.
استمرت واسط عاصمة للولاة الأمويين عقب وفاة الحجاج بصورة متقطعة، وازدهرت كعاصمة للسواد، باعتمادها على الزراعة بهذا الإقليم ونشأتها كمركز لسك النقود، غير أن سيطرة العباسيين على العراق وتأسيسهم لبغداد أدت إلى تراجع أهمية واسط كمركز إداري.
وأنجبت واسط العديد من أعلام الحركة العلمية في العراق، إلا أن هذه الأهمية تضاءلت نسبيا بعد إنشاء مدينة السلام. وإنْ احتفظت بمركزها التجاري لقرون عدة، من الناحية السياسية، فقد كانت المدينة مركزا لإدارة العراق والمشرق الإسلامي، وكان الأمير فيها يشرف على إدارة جميع المقاطعات في المشرق والعراق.
وبما أن هذه المقاطعات كانت تتبع واسط سياسياً، أدى ذلك إلى شهرة المدينة في تلك المقاطعات ومن ثم زادت الثقة بتجارتها، إذ أقيمت واسط في منطقة اتسمت بأهميتها الاستراتيجية للأغراض السياسية والعسكرية والاقتصادية، وللاستفادة من نهر دجلة في بناء واسط لأغراض عسكرية، إضافة إلى إحاطتها بسور من بقية الجهات الأخرى.
آثار مطمورة
أدت حملات التنقيب في مدينة واسط الأثرية، والتي جرت في وقت مبكر عام 1936 إلى الكشف عن مسجد كبير ومسجد آخر أصغر منه، ومقبرة وضريح وحصن، وآثار أخرى ما تزال حتى يومنا هذا مطمورة تحت الأرض، وبحاجة إلى البحث والتنقيب لمعرفة المزيد من كنوز هذه المدينة وتاريخها ومعالمها. ولو أن يد الرعاية امتدت لها لأصبحت من المعالم السياحية الجميلة التي تستقطب قوافل السياح ومن مشارق الأرض ومغاربها.
حتى البقايا الضئيلة من شواهدها تكاد لا تصمد بسبب الإهمال الذي طاول اليوم تلك المدينة التاريخية، فقد تحدث باحثون وعلماء آثار عن مخاطر الإهمال. وأطلال المدينة تخبر أنها كانت قبل قرون عديدة حافلة بكل مشاهد العمران والحياة.
ومع تقادم الزمن أصبحت اليوم عبارة عن بقايا مدينة كانت تتمتع بسور كبير وأبراج وأبواب وطرقات وجسور وبيوت وأسواق وخنادق، وكان من شواهدها مسجدها وقصرها المعروف بالقبة الخضراء، المقام على مساحة 160 ألف متر مربع. وبمرور الزمن انهارت أجزاء كبيرة من باب المدينة، وتلاشت معالمه وأقواسه وأعمدته وزخارفه الجميلة التي حفرت في طابوق البناء، وكانت تشكل حينه نماذج للجمال والفن المعماري العربي الإسلامي، كما أن قصر الحجاج كان يضم حدائق وأحواضاً وبرك مياه. لكن تلك الشواخص اندثرت بفعل الإهمال المتعمد، ولم يبق منها إلا أطلال قليلة آيلة للاندثار.
من أبرز المعالم الأثرية في مدينة واسط الأثرية منارة المدرسة الشرابية التي ترتفع 11 م، ويبيّن الباحثون أن تلك المنارة معرضة للانهيار، بسبب الإهمال والتجاوز من قبل الجهلة والسراق. ويتحدث الباحثون عن أن واسط الأثرية بذلك الطراز المعماري الفريد الذي اندثر وأصبح أطلالا، بعد أن دار عليها الزمن وهجرها الناس، ولم تعد هناك جهة تعيد للمدينة مجدها، فذلك الموقع الأثري من الطراز الأول محروم من كل شيء، فليس هناك ماء ولا كهرباء، ولم يلتفت أحد لتبليط طرقها، فقد كان يمكن لموقعها أن يحتل أهمية سياحية كبيرة لو امتدت له يد الإعمار والاهتمام لجذب آلاف السياح من بقاع العالم.