تودّع أوروبا عاماً مليئاً بالأحداث الدامية، مثلما يودّع المهاجرون واللاجئون إليها عاماً ضاغطاً من جرّاء تصاعد الخطاب الشعبوي ضدّهم والسلبيّة تجاههم، انطلاقاً من أحداث فرديّة جرى تعميمها.
مثّل عام 2016 تحدياً حقيقياً لدول الاتحاد الأوروبي في مسألة اللجوء والهجرة. منذ خريف عام 2015 واستقبال أوروبا أكثر من مليون طالب لجوء وحتى الأيام الأخيرة من العام الجاري، تفاقمت "أزمة اللجوء" التي طفت معها اختلافات أوروبية عدّة (اجتماعية وسياسية) مع بروز واضح لليمين الشعبوي وتقدّم خطابه وحركته في الشارع والإعلام. وسُجّل رفض لاستقبال طالبي لجوء مسلمين في كثير من دول القارة، خصوصاً في شرقها ووسطها. وأتى ذلك في تصريحات علنيّة لمسؤولين، لا سيما في بودابست وبراتسلافا على سبيل المثال لا الحصر.
دراسة شاملة أعدّها البروفسور الأميركي دومنيك هانغارتنر وفريقه البحثي في "مدرسة لندن للعلوم السياسية والاقتصادية"، بيّنت حجم تلك الأزمة. يُذكر أنّ الدراسة التي نُشرت محاورها في موقع "العلوم الأميركية" وعدد من المواقع والصحف الأوروبية في سبتمبر/ أيلول الماضي، ارتكزت على آراء 18 ألف أوروبي في 15 بلداً حول قضيّة 180 ألف طالب لجوء.
وفي أبرز ما جاء في الدراسة الشاملة، أوضح الأوروبيون موقفهم القائل بأنّهم لا يحبّذون وجود لاجئين مسلمين من جهة، ومن أخرى يفضّلون قبول حاملي الشهادات العلمية، خصوصاً الأطباء. لكنّ الأوروبيين عبّروا عن إيجابية أكبر تجاه طالبي اللجوء الذين تعرّضوا للتعذيب، وهؤلاء الذين يُحتمل أن يشاركوا في التقدّم الاقتصادي للبلدان المستقبلة. وعلى الرغم من الشواغل الإنسانية، إلّا أنّ العناصر التي بدت أكثر تأثيراً كانت الفئة العمرية والتعليم والدخل وبلد المنشأ والأيديولوجيا السياسية والجنس والقدرة على العمل. يُذكر أنّ إجماعاً واضحاً سُجّل بين المستطلعين حول أنّ "نتائج وآثاراً هامة سوف ترخي بظلالها على مجتمعاتنا مستقبلاً".
ألمانيا والسويد... تحديات
كان لألمانيا النصيب الأكبر من طالبي اللجوء، مع نحو مليون شخص. ومع تفاقم الأزمة التي اتضحت معالمها من خلال تقدّم اليمين الألماني، باتت الأصوات المنتقدة للاتحاد الأوروبي أكثر انتشاراً في معظم دوله. وقد نالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نصيبها من الانتقادات التي تُرجمت في تقدّم حزب "البديل من أجل ألمانيا" في الانتخابات المحلية. وثمّة خشية من تقدّمه أكثر في الانتخابات العامة في سبتمبر/ أيلول من عام 2017.
يختلف وضع ألمانيا ربما، عن أوضاع الدول المجاورة، شمالاً أو شرقاً. من نحو 81 مليون نسمة، ثمّة 16.4 مليوناً من أصول مهاجرة، أي ما نسبته 20 في المائة تقريباً. وأكثر من نصف هؤلاء يحملون الجنسية الألمانية، أي 9.2 ملايين مواطن. إلى ذلك، فإنّ ثلث العدد الإجمالي للسكان من أصول مهاجرة، ولدوا في البلد ويُعدّون جيلاً ثانياً وثالثاً.
التنوّع الكبير في المجتمع الألماني الذي يراه اليسار "إثراءً ثقافياً وحضارياً"، هو بالنسبة إلى اليمين المتشدد "تهديد" في ظل أزمات اجتماعية وأمنية وصعوبة كبيرة في الاندماج، على الرغم من السخاء في الصرف. يُذكر أنّه في مناطق محددة في العاصمة الألمانية برلين، يمكن للمرء أن يتجوّل في أحياء لا يقطنها سوى مهاجرين وشوارع معروفة بأسماء متاجر ومطاعم ومقاه كأنّها في بيروت أو إسطنبول.
ما طرأ من تغيّرات مفاجئة في ألمانيا - لم تشهد زيادة ديموغرافية مماثلة منذ عام 1954 - استُغِلّ في عام 2016 للتركيز على المهاجرين المسلمين تحديداً. مع نحو مليون مهاجر جديد، ووفقاً لتقرير رسمي صادر عن المكتب الاتحادي للهجرة واللجوء، ارتفع عدد مسلمي ألمانيا من 4.3 ملايين في عام 2009 إلى 5.7 ملايين هذا العام. يُذكر أنّ لا صحّة لما يُشاع عن أنّ مئات الآلاف الذين دخلوا إلى ألمانيا من المسلمين والعرب، إذ إنّ الأغلبيّة هي من آسيا وأفريقيا ومن أوروبا الشرقية كذلك. وثمّة مشاكل عدّة واجهتها سلطات اللجوء الألمانية في النِسب التي ادّعت أنها من بلد معيّن، ليتبيّن لاحقاً أنّها من آخر.
لا يختلف الأمر كثيراً في السويد التي استقبلت نحو 163 ألف طالب لجوء. وقد عانت حكومة ستيفان لوفين من ضغط اليمين الواضح الذي عبّر عنه خطاب "ديمقراطيي السويد"، كثابت من ثوابت الحياة السياسية والاجتماعية في البرلمان والشارع. والخشية هنا كبيرة من تقدّم هذا اليمين الشعبوي كغيره في أوروبا، عبر استغلال تدفّق المهاجرين/ اللاجئين وسط عجز أوروبي عن تحمّل مسؤولية جماعية وتوزيعهم ودمجهم في المجتمعات المستقبلة.
من هنا، يبدو واضحاً في نهاية عام 2016 أنّ التحديات التي عاشتها أوروبا تحت بند "أزمة اللاجئين"، بالإضافة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد، باتت تنعكس على مواقف الشارع الأوروبي. ويتوقع خبراء في العلوم الاجتماعية والهجرة حول القارة أن يزداد الأمر تفاقماً مع حجم التحديات وتأزّم العلاقة. وقد يؤثّر ذلك بصورة أكبر على مستقبل الاتحاد الأوروبي بحد ذاته، إذ هو "في مرحلة الترنّح"، بحسب ما يقول سفير عربي مطّلع على أمور الاتحاد، وذلك في حديث مع "العربي الجديد" حول مستقبل أوروبا. ويشير السفير، الذي فضّل عدم الكشف عن هويّته، إلى أنّ ثمّة تعقيدات جمّة "في مقدّمتها الاجتماعي والأمني والسياسي، مع غياب كبير للثقة في النخب السياسية وتأزّم الهوية الأوروبية بصورة لم تشهدها القارة مذ عاش العالم قبل قرن أزمته الاقتصادية الكبرى وحكم النازيون في عشرينيات القرن المنصرم".
رفض وترحيل
ألمانيا والسويد استقبلتا العدد الأكبر من الوافدين إلى البرّ الأوروبي، سواء عبر المتوسط فإيطاليا، أو عبر بحر إيجة فاليونان، وتشير الأرقام الرسمية إلى مشكلة عويصة لدى الدولتَين، وغيرهما ربما بأقلّ حدّة. والمشكلة هي في قضايا أساسية، مثل هويّة طالبي اللجوء وخلفية وأسباب تقدّمهم بتلك الطلبات والدمج/ الاندماج. يُذكر أنّ ذلك إمّا جمّد بصورة شبه كاملة عمليات لمّ الشمل أو أدّى إلى تأخير طويل المدى فيها، لعلّ هؤلاء يغادرون بلد اللجوء.
وقد أتت الهجمة الأخيرة التي تعرّض لها سوق الميلاد في برلين، لتثبت حجم المشكلة الخاصة بهويّة طالبي اللجوء، خلال التدفّق الكبير في أواخر العام الماضي وبداية العام الجاري الذي يوشك على الانتهاء. هكذا، مرّة أخرى، يُعاد تسليط الضوء على قضية التهريب وتزوير وثائق وجوازات سفر طالبي اللجوء، مع ذكر اسم المنفّذ التونسي الشاب أنيس العامري. وتبيّن أنّ العامري من بين أكثر من 200 ألف مهاجر مقرّر ترحيلهم من ألمانيا نتيجة انتفاء أسباب منحهم اللجوء. وهو كان، وفقاً لما تداولته وسائل الإعلام الألمانية، قد تقدّم بطلب لجوء على أساس أنّه مصري مضطهد سياسياً. وعندما كشفت حقيقة هويته بعد عدم قدرته على تقديم ما يثبت معرفته بمصر، تقرّر رفض طلبه. وحاولت السلطات الألمانية في صيف 2016 إعادته إلى تونس التي رفضت أن تعدّه تونسياً لعدم حمله جواز سفر تونسي. وفقط، بعد وقوع الهجوم المذكور آنفاً، أكّدت تونس تبعيّته لها.
في هذا السياق، يمكن القول إنّ الألمان والسويديين تعايشوا في عام 2016 مع مشكلة تحديد هويّة بعض طالبي اللجوء. فثّمة مهاجرون وفدوا معرّفين عن أنفسهم كسوريين أو من جنسيات أخرى، ليتبيّن لاحقاً أنّهم من المغرب أو الجزائر أو تونس. والأرقام التي يجري تداولها أنتجت رأياً عاماً مسلحاً بمواقف سياسية تطالب بسرعة الترحيل. لكنّ معضلة قانونية وقفت بوجه ألمانيا، إذ لا يوجد أيّ اتفاق بينها وبين الدول المغاربية الثلاث حول إعادة استقبال المرحّلين. يُضاف إلى ذلك أنّ خطط ترحيل نحو 215 ألفاً خلال العام المقبل (2017) تصطدم محلياً بمواقف اليسار والخضر. قبل هجوم برلين، كان "الاجتماعي الديمقراطي" و"الخضر" يعدّان تلك الدول "غير آمنة".
ويعيش بعض من الذين اتّخذ قرار بترحيلهم، في دوامة القوانين التي تسمح بالاحتجاز من بين إجراءات أخرى. وهو ما حصل للعامري قبل أن يُطلق سراحه بعد فترة ويُصار إلى الاستئناف مجدداً. وفقاً لصحيفة "دي فيلت" الألمانية، فإنّ عملية ترحيل 60 ألفاً حتى نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ممن لا تنطبق عليهم صفة اللجوء، عقدتها بيروقراطية القوانين، وذلك نقلاً عن وزارة الداخلية الاتحادية. على الرغم من ذلك، رحّلت ألمانيا 23 ألفاً و750 شخصاً إلى دولهم، ودخلت في مفاوضات معقدة مع تونس وغيرها لاستقبال مواطنيها.
تجدر الإشارة إلى أنّ محامي النقض الألماني هانس بيتر شيمانك، الذي يتعاطى مع قضايا المهاجرين/ اللاجئين، تحدّث قبل أيام لصحيفة "إنفارماسيون" الدنماركية عن "فساد ورشى لدى موظفي سفارات وممثليات بعض الدول، لوضع ملفات إثبات الهوية على الرفّ في مقابل بعض الأموال". إلى ذلك، تحاول السلطات الألمانية، ومثلها السويدية والدنماركية، تقديم إغراءات مالية لدفع البعض إلى القبول بالسفر طواعية بدلاً من التسفير الإجباري المكلف اقتصادياً بسبب إجراءات معقّدة.
بعد الهجوم الأخير في برلين، بدأت الأحزاب السياسية "تليّن" مواقفها حول مسألة رفض طالبي اللجوء وترحيلهم. وأطلق عضو البرلمان سيفان ماير، مبادرة لتشديد القوانين مع بداية العام الجديد وتسريع عملية الترحيل. هكذا، بدأت المستشارة الألمانية تجد نفسها بالفعل، تحت ضغوط كبيرة لـتشديد القوانين لا سيّما الخاصة بالترحيل، وأكثر من ذلك سحب الإقامات المؤقتة لمن يبدون ميلاً نحو عدم الاندماج في المجتمع. وفي هذا السياق، يرى السياسي المحافظ من بافاريا، هانس بيتر أوهل، أنّ "الأمر لم يعد يُحتمل أكثر من ذلك، خصوصاً لجهة أمن المجتمع".
الحال على ما هي
التحديات الأوروبية التي تصاعدت في عام 2016 على أثر فشل توزيع مسؤولية المهاجرين واللاجئين، لا يرى مهتمّون في هذا الشأن أنّها سوف تتقلّص في العام الجديد. وهذه التحديات كانت قد أبرزت سهولة استغلال بعض أطراف المجتمعات الأوروبية لـ"أزمة اللاجئين" - خصوصاً القوى المشككة في الاتحاد الأوروبي وعضوية بلادهم في ناديه - لحصد مزيد من الشعبية والتقدّم في استطلاعات رأي تؤسّس لانتخابات مقبلة في العام الجديد، أو للتأثير سياسياً واجتماعياً، كما في السويد والدنمارك وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا، في اتجاه الدفع نحو سياسات أخرى. إلى ذلك، فإنّ البعض - الدنمارك مثالاً - قد بدأ يتخلى فعلياً عن "كوتا اللاجئين" التي وضعتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ما أنتجته سياسة التخبّط الأوروبي خلال عام كامل، من تقاذف لمشكلة المهاجرين واللاجئين وانفلات الخطاب الذي يتّهم هؤلاء بـ"الإرهاب" وشملهم بتسمية "لاجئين اقتصاديين"، غيّرت كثيراً نظرة المجتمعات إلى هؤلاء الذين يحتاجون حماية، بحسب دراسة فريق هانغارتنر المُشار إليها آنفاً.