بالقدر الذي أفادت فيه التكنولوجيا الحديثة العديد من المهن، وجعلتها ترتقي وتتطور يوماً بعد يوم، فقد أدت إلى تراجع مهن عديدة في المجتمع المغربي. من هذه المهن التي تتجه إلى الانقراض تدريجياً مهنة الساعاتي، والهواتف العمومية، والفران التقليدي، وكذلك المسحراتي وغيرها.
الفران أو الخبّاز التقليدي الذي يسمى في المغرب أيضاً "فران الحومة" لم يعد بذلك الوهج والزخم كما كان في سنوات خلت، إذ كان إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي وجهة وحيدة للأسر وربات البيوت للخبز. ومع توالي السنوات وتطور التكنولوجيا واختراع الآلات والتجهيزات المختلفة، بات الخبز أكثر يسراً بفضل آلات الفرن الكهربائية، ولم تعد ربة البيت تحتاج إلى الذهاب بخبزها المعجون إلى الفران التقليدي.
تستذكر الحاجة الستينية مريم في حديثها إلى "العربي الجديد" كيف كان الفرن التقليدي يجمع نساء الحي اللواتي يلتقين عند "مول الفران" حين يوصلن طرحات العجين إليه، أو حين يعدن بالخبز. تضيف أنّ جميع نساء الحي كن يذهبن إلى "فران الحومة"، وكانت رائحة الخبز تُشمّ على بعد أميال، "كلّ هذا تغير في الحقبة الأخيرة بانتشار الأفران الكهربائية التي جعلت ربات البيوت يكتفين بهذه الآلات ويستغنين عن الفرن التقليدي إلاّ في حالات نادرة".
اقــرأ أيضاً
من جهته، يقول با المكي، وهو في نهاية خمسينياته، إنّه كان يعمل داخل فرن تقليدي قبل أن يتوقف عن العمل بسبب مضاعفات صحية ناجمة عن طبيعة هذه المهنة التي تحتاج إلى جلد وصبر أمام النيران. يتابع لـ"العربي الجديد" إنّه إلى حدود سنوات التسعينيات من القرن الماضي كان فرنه يعج بالزبائن، خصوصاً النساء والأطفال الذين كانوا يحملون وصلات الخبز (ألواح خشبية للعجين). يشير إلى أنّ "مدخول الفران التقليدي كان خلال تلك السنوات جيداً يتيح لمزاوله أن يعيش بكرامة ويعيل أسرته، بالرغم من المتاعب الصحية التي يسببها الوقوف الطويل أمام نار الفرن". يستدرك، إنّ الوضع تغير بشكل مخيف، ولم يعد هناك من مكان لفران الحي. يشرح "خباز الحومة"، إنّ عدد الأفران التقليدية في الأحياء الشعبية تضاءل بشكل كبير، وهناك أفران أغلقت أبوابها نهائياً إذ لم تعد تدرّ عائدات تكفي لسداد أجور عمالها، وكلّ ذلك بسبب انتشار الأفران الكهربائية ورخص ثمنها في السوق.
حال محلات الهواتف العمومية (سنترالات) ليس أفضل من أفران الحيّ في شيء، فقد كانت هذه المحلات شائعة بقوة في سنوات الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن تتراجع إلى الوراء مع نهاية التسعينات وتكاد تختفي من الوجود اليوم. كانت محلات الهواتف العمومية التي تسمى "مخادع هاتفية" بالمغرب في سنوات مضت منتشرة بكثافة كبيرة، إذ كان يقصدها الراغبون في التواصل عبر خدمة الهواتف الثابتة مع ذويهم وأحبابهم بدراهم قليلة. كثرة المخادع الهاتفية استمرت سنوات، وكانت مشاريع إنشائها مرحباً بها بشكل كبير، وكانت الطوابير تصطف لنيل فرصة الحديث في الهواتف، في وقت كانت الهواتف المحمولة قليلة جداً وباهظة الثمن في التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة. لكن بعد حصول طفرة تكنولوجية في انتشار الهواتف المحمولة وانخفاض أسعارها بشكل لافت، بدأت المخادع الهاتفية تتناقص بشكل تدريجي، فأغلق معظمها.
يقول عبد الله عز الدين، صاحب مخدع هاتفي، إنّه كان يملك محلاً للهاتف الثابت منذ الثمانينيات، وكان يدرّ عليه مدخولاً جيداً جعله يقتني شقة ويعيل أسرة من أربعة أبناء. يضيف أنّه بعد غزو الهواتف المحمولة والذكية خصوصاً بدأت تجارته تبور. يوضح أنّه حاول دعم محله للهواتف الثابتة بإدخال تجارة قريبة إلى محله، كاستنساخ الوثائق وبيع الصحف، لكنّ ذلك لم يكن كافياً لسداد إيجار المحل، فلم يجد مهرباً غير إغلاقه نهائياً مثل آلاف المتاجر في البلاد.
مهنة الساعاتي أيضاً تضررت بشكل كبير من زحف التكنولوجيا على المجتمع المغربي، فمحلات الساعاتيين في الأسواق والشوارع نادرة جداً بسبب استخدام الناس ساعات الهواتف وتخليهم عن ساعات اليد.
الحال نفسها كانت مصير مهنة المسحراتي أو النفار الذي يعمل في شهر رمضان لإيقاظ الصائمين من خلال تجواله في الأزقة والأحياء ضارباً دفه أو نافخاً في مزماره، إذ لم يعد الصائمون يحتاجون إلى حضوره ما دامت الهواتف والمنبهات حاضرة لإيقاظ النائمين منهم.
كلّ ذلك لا ينفي إيجابيات لا تعد ولا تحصى للتكنولوجيا الحديثة في تسيدها المشهدَ المغربي، بل هي فتحت فرص عمل بدورها لعشرات الآلاف.
اقــرأ أيضاً
الفران أو الخبّاز التقليدي الذي يسمى في المغرب أيضاً "فران الحومة" لم يعد بذلك الوهج والزخم كما كان في سنوات خلت، إذ كان إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي وجهة وحيدة للأسر وربات البيوت للخبز. ومع توالي السنوات وتطور التكنولوجيا واختراع الآلات والتجهيزات المختلفة، بات الخبز أكثر يسراً بفضل آلات الفرن الكهربائية، ولم تعد ربة البيت تحتاج إلى الذهاب بخبزها المعجون إلى الفران التقليدي.
تستذكر الحاجة الستينية مريم في حديثها إلى "العربي الجديد" كيف كان الفرن التقليدي يجمع نساء الحي اللواتي يلتقين عند "مول الفران" حين يوصلن طرحات العجين إليه، أو حين يعدن بالخبز. تضيف أنّ جميع نساء الحي كن يذهبن إلى "فران الحومة"، وكانت رائحة الخبز تُشمّ على بعد أميال، "كلّ هذا تغير في الحقبة الأخيرة بانتشار الأفران الكهربائية التي جعلت ربات البيوت يكتفين بهذه الآلات ويستغنين عن الفرن التقليدي إلاّ في حالات نادرة".
حال محلات الهواتف العمومية (سنترالات) ليس أفضل من أفران الحيّ في شيء، فقد كانت هذه المحلات شائعة بقوة في سنوات الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن تتراجع إلى الوراء مع نهاية التسعينات وتكاد تختفي من الوجود اليوم. كانت محلات الهواتف العمومية التي تسمى "مخادع هاتفية" بالمغرب في سنوات مضت منتشرة بكثافة كبيرة، إذ كان يقصدها الراغبون في التواصل عبر خدمة الهواتف الثابتة مع ذويهم وأحبابهم بدراهم قليلة. كثرة المخادع الهاتفية استمرت سنوات، وكانت مشاريع إنشائها مرحباً بها بشكل كبير، وكانت الطوابير تصطف لنيل فرصة الحديث في الهواتف، في وقت كانت الهواتف المحمولة قليلة جداً وباهظة الثمن في التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة. لكن بعد حصول طفرة تكنولوجية في انتشار الهواتف المحمولة وانخفاض أسعارها بشكل لافت، بدأت المخادع الهاتفية تتناقص بشكل تدريجي، فأغلق معظمها.
يقول عبد الله عز الدين، صاحب مخدع هاتفي، إنّه كان يملك محلاً للهاتف الثابت منذ الثمانينيات، وكان يدرّ عليه مدخولاً جيداً جعله يقتني شقة ويعيل أسرة من أربعة أبناء. يضيف أنّه بعد غزو الهواتف المحمولة والذكية خصوصاً بدأت تجارته تبور. يوضح أنّه حاول دعم محله للهواتف الثابتة بإدخال تجارة قريبة إلى محله، كاستنساخ الوثائق وبيع الصحف، لكنّ ذلك لم يكن كافياً لسداد إيجار المحل، فلم يجد مهرباً غير إغلاقه نهائياً مثل آلاف المتاجر في البلاد.
مهنة الساعاتي أيضاً تضررت بشكل كبير من زحف التكنولوجيا على المجتمع المغربي، فمحلات الساعاتيين في الأسواق والشوارع نادرة جداً بسبب استخدام الناس ساعات الهواتف وتخليهم عن ساعات اليد.
الحال نفسها كانت مصير مهنة المسحراتي أو النفار الذي يعمل في شهر رمضان لإيقاظ الصائمين من خلال تجواله في الأزقة والأحياء ضارباً دفه أو نافخاً في مزماره، إذ لم يعد الصائمون يحتاجون إلى حضوره ما دامت الهواتف والمنبهات حاضرة لإيقاظ النائمين منهم.
كلّ ذلك لا ينفي إيجابيات لا تعد ولا تحصى للتكنولوجيا الحديثة في تسيدها المشهدَ المغربي، بل هي فتحت فرص عمل بدورها لعشرات الآلاف.