تتضاءل أعداد المسيحيين في منطقتنا العربية تدريجياً، تبعاً لما عاشته المنطقة العربية من تراجع سياسي واجتماعي شامل وصعود التيارات المتطرفة، وغيره من الظروف التي دفعتهم إلى الهجرة أكثر من مرّة، وهو ما يشكّل خسارة المنطقة فرادتها التي طالما تمتعت بها.
ليس هناك من رقم ثابت لعدد المسيحيين العرب عموماً وفي الدول الست التي اخترناها خصوصاً. ما يرد في المصادر ليس سوى أرقام متضاربة ترتفع وتنخفض تبعاً للجهة التي تصدر عنها. وعليه، يمكن القول إنّها تقريبية أو تقديرية في أفضل الأحوال.
أرقام ونسب
مثلاً ما يرد حول عددهم في مصر متضارب إلى حدود مدهشة، ويتراوح بين 6 ملايين و15.4 مليوناً، لكنّ رقماً وسطياً يتحدث عن 10 أو 12 مليوناً، باعتبارهم يمثلون 10 في المائة من عدد السكان الإجمالي. الوضع مشابه في سورية إذ يتراوح بين 1 مليون و2 مليون و300 ألف أو أقل بقليل أي 2.251.000 وبما يوازي 11 في المائة من عدد السكان. المشكلة ذاتها تبرز في لبنان إذ يقدر العدد ما بين 1.500.000 و1.702.000 وبما يعادل 40 في المائة من العدد الإجمالي، علماً أنّ تقديرات صدرت في الأعوام الأخيرة تتحدث عن عدد أقل وبما يوازي 36 أو 34 في المائة. في العراق تتحدث التقارير الآن عن عدد يتراوح بين 400 ألف و490 ألفاً، بينما كانت هناك أرقام متداولة تصل إلى 944 ألفاً بعدما كانت سابقاً تصل إلى مليون ونصف المليون. وفي الضفة الغربية وقطاع غزة هناك ما بين 50 ألفاً و180 ألفاً، وفي أراضي الـ 1948 نحو 154 ألفا. وفي الأردن ما بين 174 ألفاً و390 ألفاً.
يقدّم كلّ من مركز الأبحاث الأميركي "بيو" في إحصاء صدر عنه في العام 2011 وموسوعة الأديان حول العالم والموسوعة البريطانية أرقاماً متقاربة عن عدد سكان الشرق الأوسط المقدر بنحو 365 مليوناً و305 آلاف نسمة عدد المسيحيين منهم 17 مليوناً و354 ألفاً، أي ما نسبته الإجمالية من عدد السكان 4.57 في المائة، وبنسبة لا تصل إلا إلى 0.080 في المائة من مسيحيي العالم، علماً أنّ مصطلح الشرق الأوسط يشمل دولاً غير عربية أيضاً هي إيران وتركيا.
وبحسب إحصائية مركز الأبحاث الأميركي "بيو" نفسها يشكل الكاثوليك 43.5 في المائة من مجمل المسيحيين في الشرق الأوسط، بينما الأرثوذكس 43 في المائة، أما البروتستانت فنحو 13.5 في المائة.
في الوقت نفسه يقول سفير الولايات المتحدة لشؤون الحريات الدينية حول العالم، ديفيد سابرستين، في تقرير قدمه إلى الخارجية الأميركية حول الحريات الدينية في 200 بلد، وضمنها الدول العربية: "توجد حاجة ملحة لسماع صوت المضطهدين دينياً في كلّ بقاع الأرض، أولئك الذين يخشون الحديث عن معتقداتهم خوفاً من الموت، أو يمارسون عباداتهم في السر في الكنائس، أو في المساجد أو في المعابد، أولئك الذين يشعرون بالإحباط لأنهم اضطروا لترك منازلهم ليمارسوا عقيدتهم".
طقوس محليّة (عصام الريماوي/ الأناضول) |
طوائف
الواضح من هذه الأرقام أنّ ثقل الكتلة البشرية للطوائف المسيحية في الشرق الأوسط هو لدى أقباط مصر، وترأسهم الكنيسة القبطية المرقسية التي تصنف ضمن فئة الكنائس الأرثوذكسية المشرقية ومقرها الرئيسي القاهرة، وتنتشر على نحو واسع في القاهرة والإسكندرية ومدن وقرى الصعيد.
يلي مصر في الوزن السكاني لبنان حيث تلعب فيه الكنيسة المارونية ومقرها بكركي شمال بيروت دوراً سياسياً ورعوياً حاسماً، بل تعتبر أنّ "مجد لبنان أُعطي لها" فهي من صنعت الكيان في العام 1920 على يد البطريرك الياس الحويك الذي أقنع الفرنسيين باستحداث دولة لبنان الكبير، بعدما كان بعض الموارنة يميلون إلى دويلة مسيحية أو "لبنان صغير" تخرج منه مناطق طرابلس وعكار والبقاع وراشيا وصيدا وصور. والطائفة المارونية من ضمن عائلة الكنيسة الكاثوليكية الشرقية.
أما الروم الأرثوذكس الموزعون على ثلاث بطريركيات في أنطاكية والقدس والإسكندرية فيشغلون مركز الثقل الثالث، ومقر بطريركية أنطاكية في دمشق. وفي سورية يشكل أتباع هذه الطائفة أكثر من نصف المسيحيين. وفي فلسطين والأردن وفي قبرص أيضاً يشكلون أغلبية المسيحيين الساحقة. وهذه الكنيسة مصنفة ضمن عائلة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية.
ويشغل المسيحيون الذين ينتمون إلى طائفة الروم الكاثوليك المركز الرابع، ويتشكل أكبر تجمع لهم في فلسطين، كما لهم ثقل في سورية لا سيّما في حلب واللاذقية، وفي لبنان "عاصمة الكثلكة" هي زحلة في سهل البقاع. هناك أيضاً بطريركية اللاتين في القدس التي تتبع الطقس الروماني الكاثوليكي وينتشر أتباعها في فلسطين والأردن ومصر ودول الخليج العربي، وهناك أيضاً أقليات من اللاتين في سورية وفي لبنان وقبرص. هناك أيضاً عدة طوائف أقلويّة مثل كنيسة الأقباط الكاثوليك والأقليات البروتستانتية والأنغليكانية في جميع دول بلاد الشام والعراق ومصر. أما أكبر كنيسة في العراق فهي الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية ومقرها بغداد، تليها كنيسة المشرق الآشورية، بالإضافة إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والسريانية الكاثوليكية. وكنيسة الأرمن الأرثوذكس وهي ضمن عائلة الكنائس الأرثوذكسية المشرقية وأكبر تجمع مسيحي لهم هو في إيران وتركيا.
هجرات
لكنّ هجرة المسيحيين العرب من المنطقة وإن كانت تتفاقم الآن جرّاء التدهور العام في المنطقة سياسيا وأمنيا، وبسبب الاضطهاد الديني الذي تمارسه الجماعات التكفيرية المتطرفة، فإن معاداة الأقليات كانت وراء الهجرة قديمة. ومعظم المسيحيين الذين تركوا المنطقة هاجروا إلى أميركا الشمالية والجنوبية وأوروبا وأستراليا. وأقدم هجرة من البلدان العربية هي من لبنان، فقد خسر لبنان الجبل قبل وخلال الحرب العالمية الأولى ثلث سكانه بفعل الهجرة، ومثلهم في المجاعة، واستمر النزيف قبل الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها عام 1975 - 1992، وتباعاً انخفضت نسبة المسيحيين إلى حدود 40 في المائة أو أقل. ومع أنّ الهجرة راهناً تشمل جميع الطوائف إلا أنّها أكثر وضوحاً لدى المسيحيين الذين يتكيفون لأسباب عدة في دول المقصد، ويصبح أبناؤهم جزءاً من نسيجها المجتمعي. لكن، يظل العامل المقرر في هذه الأمواج المتدافعة من المهاجرين يتمثل في منظومات الاستبداد الرسمي والأهلي الذي ينجم عنه حال من القلق على المصير وضيق هامش الحريات الدينية من جهة، والتأزم السياسي الاقتصادي الذي تعيشه المجتمعات العربية من جهة ثانية. وما يفاقم ذلك كله هو المنحى المتشدد الذي لم يعد يقتصر على القوى التكفيرية، بل بات يشمل فئات واسعة من الناس البسطاء الذين جذبتهم الدعوات المتطرفة إلى مدارات أفكارها وإن لم ينضموا إلى صفوفها.
أما المسيحيون العرب في فلسطين فقد عرفت جموعهم الهجرة بعد الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين عام 1948 وقيام دولة إسرائيل، ثم تصاعدت مع الهزيمة العربية عام 1967. وتضاعفت بعد سياسة الخنق والحصار والإجراءات الإسرائيلية الأخيرة في القدس ورام الله والمناطق التي يقطن فيها المسيحيون كلّها، مقرون ذلك بالموجات الأصولية ومعاينة ما يجري حولهم من نيران التوجهات المذهبية المغلقة.
وفي العراق تؤرخ هجرة المسيحيين العراقيين الكبيرة بالاحتلال الأميركي عام 2003 وقيام حكم طائفي بموجب الهندسة الطائفية الأميركية لتلك البلاد. ومع تتالي موجات الهجرة ولا سيما بعد ظهور دولة "داعش" انخفض عدد المسيحيين من مليون و400 ألف نسمة، إلى 500 ألف نسمة، وهم ما زالوا يهاجرون باستمرار بسبب عمليات الخطف والقتل ونهب ممتلكاتهم وتخريب الكنائس وقتل الكهنة والمصلين.
أما في مصر فِإنّ العنف الطائفي الذي تمارسه الجماعات التكفيرية ضد الأقباط تصاعد متخذاً شكل الاعتداءات اليومية عليهم كمواطنين، مقرونة بالأعمال الإجرامية التي استهدفت الكنائس خلال الاحتفالات الدينية، وحرق المحال والأحياء التي يسكنها الأقباط في القاهرة ومدن الصعيد. وما زال هذا المنحى مستمراً بالرغم من الوعود التي تطلقها الحكومات المتعاقبة من دون أن يترافق ذلك مع سياسات وقائية وإجراءات ضبط أمنية فعّالة.
وفي سورية التي كان يشكل المسيحيون فيها نحو 30 في المائة من السكان مطلع القرن العشرين، انخفضت أعدادهم اليوم إلى أقل من 10 في المائة بسبب الحرب والمشكلات الطائفية.
يقول المؤرخ فيليب حتي إنّ نسبة المسيحيين في سورية والعراق عند نهاية الدولة الأموية كانت في حدود 80 في المائة، الجزء الأكبر منهم عرب. وتفيد المعطيات أنّ نسبة المسيحيين في الشرق الأوسط -أي بعد إضافة مصر كانت نحو 25 في المائة عام 1900، لكنّ هذه النسبة انخفضت إلى 5 في المائة عام 2000. وهي بالتأكيد أقل من هذه النسبة في الوقت الحاضر.
أقلية
الفعلي أنّ منطقتنا العربية التي شهدت ميلاد المسيحية والتي شكّل معتنقوها خلال وقت من الأوقات أغلبية السكان، أصبحت اليوم لا تضم سوى قلة قليلة، حتى إنّ هناك من بات يطلق على الوجود المسيحي صفة الوجود النادر الذي يصلح لمتاحف الأنثروبولوجيا، بعدما كان جزءاً حيوياً وفاعلاً ودينامياً من النسيج الاجتماعي للمدن والقرى منذ قرون طويلة. ففي بداية القرن العشرين كانت نسبة المسيحيين وسطياً بالمنطقة نحو 20 في المائة من مجموع السكان، لكنّهم اليوم يشكلون أقل بكثير من 10 في المائة من السكان العرب، وقد شملت الهجرة المسلمين كذلك، خصوصاً الكفاءات العلمية والأدبية ورجال الأعمال وأهل الفكر والتقانة، ولعلّ أحد العناصر المقررة في الهجرة راهناً يتمثل في تنامي دور جماعات التطرف والتكفير في العالم العربي بوصفه أحد الأسباب الرئيسية لهجرة المسيحيين والأقليات بشكل عام.
المؤكد أنّه كانت هناك حملات وسياسات تمييز في القرون والعقود الماضية، لكنّ الوضع شهد لاحقاً أقصى درجات تعقده إلى درجة تحولت معها ثورات الربيع العربي إلى خريف للوجود المسيحي، خصوصاً في المرحلة التي تصدَّرت فيها التيارات المتطرفة المشهد، وجرى التوسع في استخدام العنف لفرض معتقداتهم على المجتمعات، ما جعل خيار الهجرة هو الأسهل للأقليات الدينية، في ضوء انسداد المسارات السياسية التي كان يمكن أن تفتح ثغرة في جدار هذه الأزمة وتطلق سياق التحول الديمقراطي.
إنّ شحن الجو الديني والمذهبي وارتباط الخطاب السياسي الوثيق بالدين بتفسيره الضيّق، يهدد السلم الأهلي في أكثر من بلد عربي. وهذا يقتضي من الثقافة العربية أن تعتمد الدفاع عن مبدأ التعددية الدينية كنقيض للنموذج الصهيوني الإقصائي لكلّ ما هو غير يهودي. والحقيقة أنّ المسيحيين في عموم الأقطار العربية ينتابهم مناخ من القلق على مصيرهم ما أجبر كثيرين منهم على مغادرة بلدانهم، وبالتالي شكلت هذه الهجرة القسرية للمسيحيين خسارة للمسلمين ولأوطانهم... والواضح أنّ هجرة المسيحيين من هذه المنطقة ستؤدي إلى فقدان المنطقة هويتها الفريدة والمميزة.
*باحث وأستاذ جامعي